ولا يقذفن في روعك أنه وهو أفصح العرب، لو قد تصنع في شيء من كلامه؛ وتكلف له، وتأتى لوجوه البلاغة المعجزة فيه، من التركيب البياني، والاختراع اللغوي وما إليهما - لجاء منه بما عسى أن يطابق القرآن في نظمه وإحكامه، وفي كل ما به صار القرآن معجزاً - تتوهم ذلك
الذي يكون من جمع النفس القوية، وكذ الذهن الصحيح، والتوفر باسباب الفطرة والصنعة على عمل هذا أمره وشأنه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لو اتفق له كذلك - على فرض أن يتفق - لخرج
مخرج غيره من فصحاء العرب، قولاً واحداً؛ لأن ما كان على حكم الغريزة لا ينزل على حكم الصنعة، وإنَّما نوادر الفصاحة والبيان من هذه التراكيب الغريبة عمل لا تبلغ فيه الحيلة؛ ولا يؤتيه
البحث والنظر وتعاطي هذه الصناعة الفلسفية التي تنفذ شيئاً من شيء وتهيئ مادة من مادة، بل كان ذلك في حكماء البلاغة إنما هو شعر القريحة البيانية، وهو ضربٌ من الإلهام، يقوى بقوة الاستعداد له ويكثر بكثرة أسبابه في النفس فلا يتعاطاه أهله بالصنعة الكلامية ولو وقعو في ملءِ
رؤوسهم منها، ولا يمكن أن تنفذ فيه قواعد التأليف البياني التي تصف البلاغة وضروبها وأسرارهَا؛ بل هو يتفق لهم اتفاقاً على غير طريقة معروفة ولا وجه يسلكونه إليه وقد يعسُرُ على أبلغ الناس في حين قد تيسر له بأسبابه، واتجه إليه بالرغبة، وجَمع عليه النفس الحريصة، وحسبه
منقاداً فإذا هو عنان لا يملك.
ولو أن هذا الضرب كان مما يجدي فيه الاحتفال، وتبلغ منه الروية ويُحتالُ عليه بالنظر والتثبت، كسائر ضروب الكلام - لقد كان البلغاء ابتذلوه ونالوا منه وصاروا فيه إلى الغاية، مع أنه
غضَةُ الريق التي لا يُعتصر منها، وإنَّما يبعثها قدر، ويسيغها قدَر، ومع أن الحرف الواحد منه في باب الاستعارة أو المجاز أو الكناية أو نحوها إذا اتفق لأحدهم كان أميرَ كلامه، والواسطة في نظامه، والدليل على إلهامه.
فهذه واحدة، والثانية أنه - صلى الله عليه وسلم - لو اتفق له كذلك - على فرض أن يتفق - لما استطاع أن يتجرد
من نفسه الكلامية، التي من شأنها أن تُطمع غيره في كلامه. وتجعله أبعد الأشياء عن مظنة الإعجاز بجانب الكلام ورأى ألفاظه تتنفسق تنفساً آدمياً، بجانب تلك الألفاظ التي تهب هبوباً كأن لها جواً فوق كون من اللغة.
وليس الأمر في هذه المعارضة - كما علمت - إلى مقدار الهمة في بعدها وقصَرها،