وإن لا نظام لإنسان الدنيا إلا أن يتمثل في نفسه إنسان الآخرة، فالساعة من القرب كأنها من كل إنسان في آخر أنفاسه وهذا كله قد أصبح اليوم من الحقائق التي لا مرْية فيها.
وفي تلك اللفظة معنى ثالث، كأنه يقول: إن عمر الأرض كان طويلاً فكانت الساعة بعيدة ثم قصر هذا العمر فبدأت الساعة تتنفس: وما يدرينا أنه قد حان أجل الأرض كما يحين أجل النهار
عندما تبدأ الدقيقة الأولى من ساعة الغروب، ثم لا ينقضي هذا الأجل إلا في الدقيقة الأخيرة من هذه الساعة؟ .
وبقي معنى رائع في لفظة (النفس) أيضاً؛ وذلك أنه يقال على المجاز: فلان في نفسيى من ضيقه، إذا كان في سعة ومندوحة وقد عرف الضيق ما هو بعد أن شد عليه وكتم أنفاسه! فيكون التأويل على ذلك، أن الساعة آتية وأنها قريبة.
وأنها تكاد تكون ولكن البعثة في نفس منها، فليعمل
الناس لآخرتهم فإنه يوشك أن لا يعملوا؛ ثم ليعمروا أنفسهم قبل أن يعمروا أرضهم: فإن الساعة تطوي هذه وتنشر تلك.
ومن تلك الأوضاع قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" كل أرضٍ بسماتها "، وقوله: " يا خيل الله اركبي "
" ولا تنطح فيها عنزان ".
وقوله لأنجشةَ، وكان يسير بالنساء في هوادجهن. وهو يحدو بالإبل وينشد القريض والرَّجر. فتنشط وتجد وتنبعث في سيرها فتهتز الهوادج وتضطرب النساء فيها اضطراباً شديداً فقال عليه الصلاة والسلام
" روَيدك رفقاً بالقوارير ".
وقوله في يوم بدر: " هذا يومٌ له ما بعده ".
إلى أمثال لذلك كثيرة؛ لو أردنا أن نستقصي في جمعها وفي شرحها واستنباط وجوه البيان منها، لطال بنا القول جداً ورجع أمر هذا الفصل أن
يكون في معنى التأليف كتاباً برأسه إن كنا لا نلتزم إلا جهة البيان وحدها.
وكل ذلك من الأوضاع التي ابتدعها أفصح العرب - صلى الله عليه وسلم - في هذه اللغة ابتداة ولم تسمع من أحد قبله، ولا شاركه في مثلها أحد بعد، وكل كلمة منها كما رأيت لا يعدلها شيء في معناها،
ولا يفي بها كلام في تصوير أجزاء هذا المعنى وانتظام هذه الأجزاء ونفض أصباغها عليها، وهذا
الضرب من الكلام الجامع هو الذي يمتاز البليغ في كل أمة بالكلمة الواحدة من مثله، أو