في الأولى مُسددَ اللفظ مُحكم الوضع جزل التركيب. متناسِب الأجزاء في تأليف الكلمات: فخم الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه واللفظ وضريبه في التأليف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفاً
مضطرباً؛ ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه؛ ولا كلمة غيرُها أتم منها أداة للمعنى وتأتياً لسره في الاستعمال؛ ورأيته في الثانية حسن المعرِض، بين الجملة، واضحَ التفضيل، ظاهِرَ الحدود جيدَ الرصفِ، متمكن المعنى؛ واسع الحيلة في تصريفه، بديعَ الإشارة، غريب اللمحة،
ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهاً، ولا ترى اضطراباً ولا خطلاً، ولا استعانة من عجز، ولا توسعاً من ضيق، ولا ضعفاً في وجه من الوجوه.
وهذه حقيقة راهنة؛ دليلُها ذلك الكلام نفسهُ بجملته وتفصيله، لا يجهلها إلا جاهل، ولا يغفل عنها إلا غافل، فإذا أنت أضفت إليها ما هناك، من سمو المعنى؛ وفصل الخطاب، وحكمة القول، ودنو المأخذ، وإصابة السر، وفصل التصرف في كل طبقة من الكلام، وما يلتحق بهذه
وأمثالها من مذهبه - صلى الله عليه وسلم - في الإفصاح، ومنحاه في التعبير، مما خُص به دون الفصحاء، وكان له
خاصة، من عظمة النفس، وكمال العقل، وثقوب الذهن ومن المنزعَة الجيدة، واللسان المتمكن - رأيت من جملة ذلك نسقاً في البلاغة قفما يتهيأ في مُثول أغراضه وتساوق معانيه لبليغ من البلغاء،
إذ يجمع الخالص من سر اللغة ومن البيان ومن الحكمة - بعضها إلى بعض.
أما اللغةُ فهي لغة الواضع بالفطرة القوية المستحكمة، والمنصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأما البيان فبيان أفصح الناس نشأة، وأقواهم مذهباً، وأبلغهم من الذكاء والإلهام،
وأما الحكمة فتلك حكمة النبوة، وتبصير الوحي وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانية.
وأين من ذلك الفصحاء والبلغاء وأنى لهم؛ وما قط عرفنا بليغاً سَلمت له جهاتُ الصنعة في كلامه - من اللغة والبيان والحكمة - على أتمها، بحيث لم يرغ عن قصد الطريقة، ولا تحئفته
إحدى هذه الثلاث بإدخال الضيم على أختيها في كلامه واستبانة أثرها فيه وغلبتها عليه، وإنَّما هو جهد الممرن من هذه الفئة. أن يصنعَ الصنعةَ، ويغلوَ في الإتقان، ويبالغ في التهذيب والتنقيح،
ويعملَ بما وسعه لتخليص كلامه، ويتلوم على ذلك ويتقدم فيه ويتأخر متأملاً ههنا وههنا من أعطافِ الكلام، ثم هو بعد ذلك إن سلمت له الحكمة لم تسلم له صنعة اللغة في حسِّ الهداية إلى الاستعمال والتمكن منه، وإن خَلصَت له هذه لم يخلص إلى أسرار البيان في تركيبها وتنضيدها،
فإن هو أفضى إليها لم يخلص إلى النادر منها، مما يخرج الكلام في قبوله وحسن معرضه وصفاء