فهي ولا ريب لم تكن مجتلبة، ولا متكلفة، ولا ترامى إليها البحث والتفتيش، وإنَّما جرت منه - صلى الله عليه وسلم - مجرى غيرها؛ مما قذفه الطبع المتمكن، وألفته السليقة الواعية، ولا ريب أن وراءها في ذلك
الطبع وتلك السليقة، ما وراء ألفاظها من سائر ما انفردت به تلك اللغات عن القرشية، فلا بد أن يكون لمجر محيطاً بفروق تلك اللغات، مستوعباً لها على أتم ما تكون الإحاطة والاستيعاب، كأنه في كل لغة من أهلها، بل أفصح أهلها.
وإنما يحمل هذا على قوة في فطرته اللغوية، تتميز بالإلهام عن سائر العرب من قومه وغير قومه، على النحو الذي اختصت به ذاته الشريفة بالوحي من ربه، والباب في كلتا الجهتين واحد أيسره وأكثره.
لماذا كانت تلك فطرته اللغوية، في تمكنها، وشدتها، واستحصافها، وسبيلها إلى الإلهام؛ وانطوائها على أسرار الوضع؛ فانظر ما عسى أن يحدث من مبلغ أثرها في اللغة وضعاً واشتقاقاً
واستجازة وتقليباً، وما عسى أن يبلغ القول في مظاهرها من مخارج الكلام ووجه إرساله وإحكام تنضيده واجتماع نسقه؛ ثم تدبر ما عسى أن تكون جملة ذلك قد أثرت في العرب ومناطقها
وأساليبها، وهم كما علمت أهل الفطرة والسليقة وإنما أكبر أمرهم في اللغة التوهم والنزوع إلى المحاكاة، والمضي على ما توهموا، والأخذ فيما نزعتهم إليه الطبيعة، وعلى ذلك مبنى لغتهم كما فصلناه في بابه.
فالعربي الفصيحُ منهم، إذا كان جافياً مُتَوقحاً، وكان صافي الحس بليغ الطبع، وكان في قواه البيانية مع ذلك فضل من التصرف - رجَعَ أمره ولا جَرَم إلى أن يكون صاحب لغتهم، وإلى أن يكون منطقُهُ فيهم مذهباً من المذاهب، وإن كانوا لا يعرفونه باللغة وعلمها وتصريفها على الحدود
التي يعرفُ بها الناس علماءهم، وكان هو لا يعرف من نفسه أنه لغويَ وأنه واضع، إذ ليس من ذلك شيء يسمى عندهم علماً، إنما هو سصت الفطرة التي تأخذ فيه طبائعهم، ودلالتها التي تهتدي
بها وتستقيم عليها لا أكثر من ذلك ولا أقل.
ولقد كان هؤلاء العرب أجدَر الناس بأن يقال إن فيهم
حاسة سادسة، هي حاسة الاهتداء اللغوي، ثم لا يكون هذا القول إلا حقاً.
وبعد، فإنه ليس لنا أن نبسط في الفصل أكثر مما بسطنا، فإن علماءنا ورواتنا رحمهم الله لم يوقعوا الكلام في أماليهم وكتبهم على حالة اللغة لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعييناً، ولا دلوا على ما كان له
من الأثر في أوضاعها وتقليبها، وعلى ما جاء من قِبَله في ذلك مما كان من قبل سواه؛ وعلى ما صارت إليه اللغة بعد استفاضة الإسلام والاجتماع على المضرية، إلى ما يداخل ذلك من أبواب التاريخ اللغوي.
وإنما اكتفوا بأنهم إجماع واحد، ويقين لا تحتل منه، أنه عجَتَ كان أفصح العرب، وأعلمهم بلغاتها وأوسعهم في هذا الباب وأنه لم يأتهم عن أحد من روائع الكلام ما جاءهم عنه وأن له في كل ذلك المزية البينة، التي تواتر النقل، وتظاهر بها الخبر، كما أسلفنا بيانه، ثم تركوا