الأسباب مقطوعة منهم، لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها، أو ينميها، أو يجعل لها عندهم شأناً، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها؛ فليس إلا أن يكون ما خص به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قد كان
توفيقاً وإلهاماً من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن فقد علمه الله من أشياء كثيرة ما لم يكن يعلم؛ حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم؛ لتكون الحجة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أن
ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البينة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة.
فهذه واحدة، وأما الثانية فقد كان - صلى الله عليه وسلم - في اللغة القرشية التي هي أفصحُ اللغات وألينها،
بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحسق ونفاذ البصيرة واستقامة الأمر كله، بحيث يصرف اللغة
تصريفاً، ويديرها على أوضاعها، ويشق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه؛ لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومعاناة، ولا بعد نظر فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار، تهيئ له الفطرة القوية،
وتعين عليه النفس المجمعة والذهن الحاد والبصر النفاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني، تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع.
وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصه بجملتها، وأسلس له مآخذها، وأخلص له أسبابها كالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو اصطنعه لوحيه، ونصبه لبيانه،
وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته؛ وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام وجماع الطبيعة وصفاء الحاسة وثقوب الذهن واجتماع النفس وقوة الفطرة ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض.
ولا يذهبنً عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها فإنما هذه سبيله؛ يأتي من ورائها وهي الأسباب إليه؛ وقد نشأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقلب في أفصح القبائل
وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة؛ ولقد كان في قريش وبني سعد
وحدهم ما يقوم بالعرب جملة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
"أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد ابن بكر "
وهو قول أرسله في العرب جميعاً، والفصاحة أكبر أمرهم والكلام سيد