ولعمري إن اتفاق هذا الإحكام العجيب مع غرابة الوضع، لهو أغرب منها في مذهب البلاغة،
وأدخلُ في باب العجب، ولولا أن الأمر إلهي، ولا عجب من قدرة الله.
وقد كان العرب إنما يرَكبون ألفاظهم في معاني مألوفة وعلى سُنن معروفة فإن وقع فيها شيء غريب فلا يكون من انتلاف اللفظ مع اللفظ وإنما يجيء من أبواب أخرى تتعلق بهيئة التركيب نفسه؛ على ما عرف من جهات البلاغة وفنونها. وذلك شيء لا ينقضُ العُرف، بل يتهيأ مثلُهُ لكل
من تسبب له وأخذ في طريقته، وكثيراً ما اتفق للمتاخر فيه أبدعُ مما جاء به المتقدم؛ لأنه أمر عموده الطبع؛ وأسبابه في الاكتساب والتمرين، والبراعة فيه بالتوليد والمحاكاة والتأمل؛ وهذه
ضروب كلما اتسعت أمثلتُها اتسعت فنونها، لاشتقاق بعضها من بعض؛ وبها انتهت البلاغة في المتأخرين إلى ما انتهت إليه مما ذهب أكثره من علم المتقدمين في صدر اللغة.
وتلك الغرابة التي أومأنا إليها، وقد يتفق الشيء القليل منها لافراد الفصحاء وأئمة البيان، مما ينفذ فيه الطبع اللغوي، والمنزع القوي، وهو من غرابة القريحة فيهم؛ على أن ذلك لا يعدو كلمات معدودة: كقول امرئ القيس في الجواد: (قيدِ الأوابد) وقول أبي تمام في الرأي: (وطن للنُّهى) ونحو ذلك من الكلمات الجامعة التي تتفق لفحول الشعراء والبلغاء، مما هو في الحقيقة
وضغ لغوي مركب، يشبه الوضع اللغوي في الكلمات المفردة، فيتناول اللغة والبلاغةَ جميعاً، وتكون فضيلته في الجهتين.
بَيدَ أنك ترى جملة تراكيب القرآن من غرابة النظم، على ما يشبه هذا الوضعَ في ظاهر الغرابة وترى فيه من البلاغة الجامعة خاصة أضعاف ما أنت واجده لأهل اللغة كلهم من الشعراء
والخطباء والكتاب، وهذا الضرب من البلاغة تحصي منه في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يرجح بكثير من الناس. ولكن لا يعمهم؛ وهو باب من أبواب بلاغته عليه الصلاة والسلام بل من أخص أبوابها.
كما نبسطه في موضعه.
ولا يذهبن عنك أن وضع الألفاظ المفردة إنما يقع في أزمان متطاولة وعصور متعاقبة.
ولا يلبث اللفظ أن يوضع حتى يجري في الاستعمال ويستوفي وجوه التركيب التي يقلب عليها.
فنزول القرآن في بضع وعشرين سنة. واجتماعه من سبع وسبعين ألف كلمة ونيف؛ بهذه التراكيب التي