من أماكنها، وأزلتها عن روابطها حَصَلت معك ألفاظ كغيرها بما يدور في الألسنة ويجري في الاستعمال، ورأيتها - وهي في الحالين لغة واحدة - كأنما خرجت من لغة إلى لغة، لجد ما كانت
فيه مما صارت إليه، بيد أنك إذا تعرفت ألفاظ اللغة على هذا الوجه في كلام عربي غير القرآن،
أصبت أمراً بالخلاف، ورأيت لكل لفظة روحاً في تركيبها من الكلام فإذا أفردْتها وجدتها قريبة مما كانت، لأنها هي نفسها التي كانت من روح التركيب، ولم يكن لهذا التركيب في جملته روح خاصة بالنسق والنظم، فعلى كل لفظة معنى في الجملة كما أعطتها اللغة معنى في الإفراد، حتى
إذا أبنْتها وميزتها من هذه الجملة ضعفت ونقصت، وتبينتَ فيها الوحشة والقِلة شبيه الذي يَعرض للغريب إذا نَزَح عن موطنه وبانَ من أهله، وكان كل ذلك فيها طبيعياً لأن حقيقة التركيب إنما هي
صفة الوحي في هذا الكلام.
وهذه الروح التي أومأنا إليها، (روح التركيب) ، لم تعرف قط في كلام عربي غير القرآن، وبها انفرد نظمه وخرج مما يطيقه الناس؛ ولولاها لم يكن بحيث هو كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين، إذ تراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا
النظم: فمن هنا تعلق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة؛ هي صفة إعجازه في جملة التركيب كما عرفت، وان كان فيما وراء ذلك متعدد الوجوه التي يتصرف فيها من
أغراض الكلام ومناحي العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب: كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال، إلى نحوها مما يدور عليه.
ولولا تلك الروح لخرج أجزاء متفاوتة، على مقدار ما بين هذه المعاني ومواقعها في النفوس؛ وعلى مقدار ما بين الألفاظ والأساليب التي تؤديها حقيقة ومجازاً. كما تعرفه من كلام البلغاء عند تباين الوجوه التي يتصرف فيها، على أنهم قد رفهوا عن أنفسهم وكفوها أكبر المؤنة فلا
يألون أن يتوخوا بكلامهم إلى أغراض ومعان يعذب فيها الكلام ويتسق القول وتحسن الصنعة مما يكون أكبر حسنه في مادته اللغوية، وذلك شائع مستفيض في ماثور الكلام عنهم، ثم هم مع هذا يستوفون المعنى الواحد على وجهه، فإذا تحولوا إلى غيره، وأفضوا بالكلام إلى سواه رأيت من
اقتضابهم في الأسلوب ومن التذاكر في وضع المعنى إلى المعنى ما يشبه في اثنين متقابلين من الناس منظر قفا إلى وجه.
وعلى أنا لم نعرف بليغاً من البلغاء تعاطى الكلام في باب الشرع وتقرير النظر وتبيين الأحكام ونصبِ الأدلة وإقامة الأصول والاحتجاج لها والرد على خلافها، إلا جاء بكلام نازل عن طبقة كلامه في غير هذه الأبواب؛ وأنت قد تصيب له في غيرها اللفظ الحر، والأسلوب الرائع، والصنعة المحكم والبيان العجيب، والمعرضَ الحسنَ، فإذا صرت إلى ضروب من تلك
المعاني، وقعت ثمةَ على شيء كثير من اللفظ المستكرهِ، والمعنى المستغلق والسياق المضطرب، والأسلوب المتهافت والعبارات المتبذَّلة، وعلى النشاط متخاذلاً والعرى محلولة،
والوثيقة واهنة، وتبينتَ كلاماً لا تطمئن إليه في أكثر جهاته حتى لتعجب أن صاحبه وصاحب