الصنعة ومن وراء الفكر وكأنها صُبَّت على الجملة صباً - أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت فيه إلا مجموعاً ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها: كلفظة
(اللب) فإنها لم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) .
وقوله:
(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52) .
ونحوهما، ولم تجئ فيه مفردة، بل جاء في مكأنها (القلب) ، وذلك لأن
لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم يكن ثم فصل بين الحرفين يتهيأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدة؛ تحسن اللفظة مهما
كانت حركة الإعراب فيها؛ نصباً أو رفعاً، أو جراً؛ فأسقطها من نظمه بتة، على سعة ما بين أوله وآخره، ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، وهذا على أن فيه لفظة
(الجبّ) ، وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة.
وكذلك لفظة (الكوب) ، استعملت فيه مجموعة ولم يأت بها مفردة لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ (أكواب) الذي هو الجمع.
و (الأرجاء) لم يستعمل القرآن لفظها إلا مجموعاً وترك المفرد - وهو الرجا: أي الجانب - لعلة لفظه، وأنه لا يسوغ في نظمه كما ترى.
وعكس ذلك لفظة (الأرض) ؛ فإنها لم ترد فيه إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة التي ذهبت بسر الفصاحة وذهب بها، حتى خرجت من الروعة بحيث يسجد لها كل فكر سجدة طويلة، وهي في
قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) .
ولم يقل: وسبع أرَضِين؛ لهذه الجسأةِ التي تدخل اللفظ ويختل بها النظم اختلالاً، وأنت فتأمل - رعاك الله - ذلك الوضع البياني، واعتبر
مواقع النظم، وانظر هل تتلاحق هذه الأسباب الدقيقة أو تتيسر مادتها الفكرية لأحد من الناس فيما يتعاطاه من الصناعة، أو بتكلفة من القول، وإن استقصى فيه الذرائع، وبالغ الأسباب، وأحكم ما
قِبَله وما وراءه. .
ومن الألفاظ لفظة (الآجرّ) وليس فيها من خفة التركيب إلا الهمزة وسائرها نافر متقلقل لا يصلح مع هذا المد في صوت ولا تركيب على قاعدة نظم القرآن، فلما احتاج إليها لفظها ولفظ
مرادفها وهو (القرْمد) وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، ثم أخرج معناها بألطف عبارة وأرقها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف يفضِح الصبحَ، وذلك في قوله تعالى:
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) .
فانظر، هل تجد في سر الفصاحة وفي روعة الإعجاز أبرع أو أبدع من هذا؛ وأي عربي فصيح يسمع مثل هذا النظم وهذا التركيب ولا يملكه حسُّه ولا يسوغه حقيقة نفسه ولا يجن به