الطوال بالمعارضة، وإن أرادوا مثلَ النظم أو لم يريدوه، على أن المعارضة لا تكون شيئاً يُسمى، ما لم تكن بمثل النظم والأسلوب؛ أما النظم فقد علمتَ وجهَ استحالته، وأما الأسلوب فستعلم
وجه الأمر فيه. . .
وهذه الطوال، فكل آية منها في الاستحالة على المعارضة تقوم بما في السور القصار كلها، لتحقيق وجه النظم وأسرار التركيب واستفاضةِ ذلك وترادفها بما هو مقطعة للأمل، ومن تعلق الآية بما قبلها، وتسببها لما بعدها؛ وظهورها في جملة النسق، فأين يجولُ الرأي في هذا كله ومن أين يستطرد؟
وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات،
وكثيرة ما هي، إلا في شيء واحد وهو في القرآن سر الإعجاز إلى الأبد، وذلك أن معجزات الصناعة إنما هي مركبات قائمة من مفردات مادية، متى وقف امرؤ من الناس على سر تركيبها
ووجه صنعتها فقد بَطلَ إعجازها بخلاف الكلام الذي هو صور فكرية لا بد من أوضاعها من التفاوت على حسب ما يكون من اختلاف الأمزجة والطباع وآثار العصور - ولا تجزئ فيها الصناعة وآلاتها - من صفاء الطبع ودقة الحسق وسلامة الذوق ونحوها مما يرجع أكثره إلى الفطرة
النفسية في أي مظاهرها.
فالمعجز من هذه الصور الفكرية بإحدى الخصائص كنظم القرآن معجزَ إلى الأبد، متى ذهب أهلُ هذه الخصوصية التي كان بها الإعجاز، كالعرب أصحاب الفطرة اللغوية والحسِ البياني الذين
صرفوا اللغة وشققوا أبنيتها وهذبوا حواشيها وجمعوا أطرافها واستنبطوا محاسنها، وكانوا يستفلون ذلك من أسرار الطبيعة في أنفسهم، وأسرار أنفسهم في الطبيعة؛ ثم ذهبوا وبقيت اللغة في أصولها
وأبنيتها وطرق وضعها ومحاسن تأليفها على ما تركوها. وإن العصر الطويل من عصورها ليُدبر عنها كما يموت الرجل الواحد من كتابها أو شعرائها ليس لأحدهما من الأثر في تلك الخصائص أكثر
مما للآخر، على تفاوت ما بين العصر الطويل بحوادثه وأهله، وبين الرجل الفرد في خاتمة نفسه.
وذلك لأن الفطرة التي كانت تصرفها قد ذهبت، وانقطعت من الزمن أسباب الطبيعة، فليس يمكن أن تعود أو تتفق، إلا إذا استدار الزمن كيوم خلق الله السموات والأرض، وعاد التاريخ
الإنساني من أوله، أو بعث أولئك العرب أنفسهم نشأة أخرى، بأيامهم وعاداتهم وأخلاقهم وسائر ما كان لهم من أسباب الفطرة.
وإذا وقع هذا الأمر كله ولم يعد في الفرض من مستحيل، فكل ما
هنالك أن إعجاز القرآن الكريم لا ينتهي من الأبد ولكنه يبتدئ في أولئك العرب مرة أخرى إلى الأبد. .
وفي القرآن مظهر غريب لإعجازه المستمر، لا يحتاج في تعرفه إلى روية ولا إعناتٍ، وما هو إلا أن يراه من اعترض شيئاً من أساليب الناس حتى يقع في نفسه معنى إعجازه؛ لأنه أمر يغلب على الطبع وينفرد به فيبينُ عن نفسهِ بنفسهِ، كالصوت المطرب البالغ في التطريب: لا يحتاج امرؤ