فلو ذهبوا إلى معارضة السورة القصيرة على قلة كلماتها، وعلى أنها نفس واحدة وجملة متميزة، لضاق بهم الأمر بمقدار ما يظن الجاهل أنه يسعُهم؛ فإن ذلك الإحساس لا يزايلهم ولا يبرح يورد عليهم محاسن ذلك الأسلوب جملة.
ويغمرهم بها ضربة واحدة تنثال من ههنا وههنا؛
فلا يكون إلا أن يقفوا متلددين وقد حاروا في أي جهة يأخذون، وأي جانب يتوجهون إليه، ولا يكون من همهم تعرف ذلك دون تحقيقه، ولا تحقيقه دون الإتيان به، ولا المجيء به دون أن يساويَ ذلك الأصلَ الذي في أنفسهم، ولا هذه المساواة دون أن تذهب السورة التي يجيئون بها
بكل ما وقر في أنفس العرب الفصحاء واستولى على إحساسهم من بلاغة القرآن وفصاحة نظمه،
وذلك أمر بعضه أشد من بعض وأبلغ في الاستحالة.
فإن وُجد منهم سفيه كمسيلمة، يحمله جنون العظمة وحب الغلبة والتحمد في الناس، ثم كدرُ الفطرة وغلظُ الإحساس في نفوس أتباعه - على أن يتعقب السورة أو بعض السورة بالمعارضة، لا يبالي موقع كلامه، وعلى أي جنبيه كان مصرعه؛ فلن يكون له مذهب إلا مقابلة
الكلمة بالكلمة والوزن بالوزن كما قال في معارضته:
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) .
فقد قال: إنا أعطيناك الجماهر؛ فصل لربك وجاهر. .، إلى آخر ما حكوا من سخافاته وحماقاته التي التمس منها الحجة له فكانت فيها الحجة عليه، وأراد أن يستطيل بها فتركته مثلاً في الحماقة والسخرية؛ وسنكشف بعد عن سبب هذا الخطل في كلام مسيلمة.
لا جرَمَ كان من الرأي الفائل والمذهب الباطل قولُ أولئك الذين زعموا أن الإعجاز كان بالصرفة، على ما عرفت من معناها؛ وما دعاهم إلى القول بها إلا عجَبهم كيف لم يأتي للعرب أن
يعارضوا السورة القصيرة والآيات القليلة مع هذا التحدي ومع هذا التقريع، وهم اللد الخصمون،
والكلام سيد عملهم ولهم فيه المواقف والمقامات، بيد أن أولئك لو كان لهم إحساس العرب أو لم يأخذوا الأمر على ظاهره وردوه إلى أسبابه في الفطرة لرأوا أن معنى العجز هو في الكثير والقليل فإن
التحدي بالسورة الواحدة طويلة أو قصيرة، لم يكن في أول آية نزلت من القرآن. . . كان بعد سورٍ كثيرة منه، وبعد أن ذهبت في العرب كل مذهب؛ وهو أمر غريب في استلاب حسّ القوم والتأتي إلى تعجيزهم، فإن أعجبك شيء من سياسة البيان المعجزة واشتقاق المستحيل من الممكن؛ فذلك
فليُعجبك.
وههنا معنى دقيقَ في التحدي، ما نظن العرب إلا وقد بلغوا منه عجباً: وهو التكرار الذي يجيء في بعض آيات القرآن، فتختلف في طرق الأداء وأصل المعنى واحد في العبارات المختلفة،
كالذي يكون في بعض قَصَصه لتوكيد الزجر والوعيد وبسط الموعظة وتثبيت الحجة ونحوها، أو في بعض عباراته لتحقيق النعمة وترديد المنة والتذكير بالنعم واقتضاء شكره، إلى ما يكون هذا الباب؛ وهو مذهب للعرب معروف، ولكنهم لا يذهبون إليه إلا في ضروب من خطابهم: للتهويل