وهذا الأسلوب فإنما هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله، ليس من ذلك شيء إلا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن أن يكون معجزاً وهو الذي قطع العرب دون المعارضة،
واعتقلهم عن الكلام فيها، وضربهم بالحجة من أنفسهم وتركهم على ذلك يتلكأون.
ثم هو الذي مثل لهم اليأس قائماً لا يتصل به الطمع، وصور لهم العجز غالباً لا تنال منه القدرة، فأحرزَ طباعهم في ناحية من الضعف والاستكانة، حتى كأنها غيرُ طباعهم في تثلمها بعد انتضائها
وتراجعها بعد مضائها، وقد كانوا يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ويتناقضون في أغراضه ومعانيه، حين لم يكن من الفرق عند فصحائهم بين فن وفن من القول إلا ما يكون من تفاوت
المعاني واختلاف الأغراض وسعة التصرف، وكان أسلوب الكلام قبيلاً واحداً وجنساً معروفاً،
ليس إلا الحرُّ من المنطق والجزل من الخطاب، وإلا اطراد النسق وتوثيق السرد وفصاحة العبارة وحسن ائتلافها، لا يغتصبون لفظة، ولا يطردون كلمة، ولا يتكلفون لتركيب، ولا يتلوَّمون
على صنعة، وإنما تؤاتيهم الفطرة وتمدهم الطبيعة؛ فنسق الألفاظ إلى ألسنتهم، وتتوارد على خواطرهم، وتجري مع أوهامهم، وتستجيب فيهم لكل حركة من النفس لفظة المعنى الذي هو
أصل هذه الحركة، ثم لا تكون هذه اللفظة إلا كأنها خلقت لذلك المعنى خلقاً، وأفرِغت عليه إفراغاً، حتى لا يناسبه غيرها فيما يلتئم على لسان المتكلم، ولا يكون في موضعها أليق منها في مذهبه ولحن قومه وطريقة لغته.
فلما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم باعيانها متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق.
ليس في ذلك إعناتَ ولا معاياة، غير أنهم ورد عليهم من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته - ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الجلود؛ حتى أحسُّوا بضعف
الفطرة القوية، وتخلف الملكة المستحكمة؛ ورأى بلغاؤهم أنه جنس من الكلام غير ما هم فيه،
وأن هذا التركيب هو روح الفطرة اللغوية فيهم، وأنه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد العرب أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس، إذ هو وجه الكمال اللغوي الذي عرف أرواحهم واطلع على
قلوبهم، بل هو السر الذي يفشي بينهم نفسَه، وإن كتموه، ويظهر على ألسنتهم ويتبين في وجوههم وينتهي إلى حيث ينتهي الشعور والحس، فليس للخلابة أو المؤاربة وجة في نقض تأثيره
وإزالته عن موضعه، ومن استقبل ذلك بكلامه أو أراده بأي حيلة، فقد استقبل رد النفوس عن أهوائها، ورَدعَ القلوبُ عن محبتها، وحاول معارضه أقوى ما في النفس بأضعف ما فيها؛ وهذا