وتلك لا ريب فرية على المعري أراده بها عدو حاذق، لأن الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه، وما نراه إلا أعرف الناس باضطراب أسلوبه والتواء مذهبه، وأن البلاغة لا تكون مراغمة للغة، واغتصاباً لألفاظها، وتوطيناً لغرائبها كما يصنع؛ وأن الفصاحة شيء غير صلابة
الحنجرة، وإفاضة الإملاء، ودفع الكلمة في قفا الكلمة حتى يخرج الأسلوب متعثراً يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه في جهة، ويستقيم من ناحية ويلتوي من ناحية؛ وأنه عسى أن لا يكون في
اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى فساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شر من هذا كله، وما أسلوب المعري إلا من هذا كله.
على أن المعري - رحمه الله - قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي،
فقال: " وأجمعُ ملحد ومهتدي، وناكب عن المحجة ومقتدي.
أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كتاب بَهرَ بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذيَ على مثال، ولا أشبه غريبَ
الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سَهَل وحُزون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرب. . . وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه
المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق " اهـ.
ولا يعقل أن يكون الرجل قد أسز في نفسه غير ما أبدى من هذا القول ولم يضطره شيء إليه، ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلو رسالته منه تضييعاً ولا ضعفاً، ولا نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمرَ القرآن أمر على حدة؛ فما هو عند البرهان عليه وراء
القبر ولا وراء الطبيعة.
وبعد، فهذا الذي وقفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة؛ أما إن القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وتركيبه، وبمثل ما احتواه، ولو اجتمعت الإنس بما يعرفونه، وأمدهم الجن بما لا يعرفونه، وكان بعضهم لبعض ظهيراً فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك
هو الحق الذي لا جمجمة فيه، ولا يستعجم على كل بليغ له بصر بمذاهب العرب في لغتها وحكمة مذاهبها في أساليب هذه اللغة، وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه، وكان
يجري من هذه الصناعة البيانية على أصل ويرجع فيها إلى طبع.
وإن شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع واستفاضة المادة وتمكنه من فنون القول وتقدمه في مذاهب البيان؛ فكلما تناهى في علمه