أخِذَتِ به الحجة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز، إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات،
تلميحاً كما تقدم، وتصرِيحاً كقولهم: (أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) .
وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق، لأنها أعراق ضاربة في القلوب، ملتفة بالطبائع،
وخاصة في قوم كالعرب كان شأن الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سَلَف، وكانت العادة عندهم ديناً حين لم يكن الدين إلا عادة.
قال الجاحظ: بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً، وأحكم ما كانت لغة، وأشدَّ ما كانت عُدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته؛ فدعاهم بالحجة،
فلما قطع العذرَ وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة،
حملهم على حظهم بالسيف. فنصب لهم الحرب ونصبوا، وقتل من عليِّهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحاً ومساة إلى أن يعارضوه إن
كان كاذباً بسورة واحدة؛ أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحدياً لهم بها، وتقريعاً لعجزهم عنها،
تكشف من نقصهم ما كان مستوراً، وظهر منه ما كان خفياً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات.
فلم يَرُمْ ذلك خطيبٌ ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارضَ وقابلَ وناقضَ، فدل ذلك العاقلَ
على عجز القوم، مع كثرة كلامهم، واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم؛ وكثرة شعرائهم؛ وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت
أنقضَ لقوله؛ وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه؛ وأسرعَ في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على مَن هو دون قريش
والعرب في الرأي والعقل بطبقات؛ ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطبُ الطوال البليغة والقِصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثم تحدى به أقصاهم بعد أن
أظهر عجز أدناهم. فمحال - أكرمك الله - أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر،
والخطأ المكشوف البيِّن مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفةَ،
وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر