لِيَسْتَبْقِيَهُ بَلْ يُوَزِّعُ فِي حِينِهِ عَلَى الْمُعْوِزِينَ مِنْ أَرَامِلَ وَمُنْقَطِعِينَ، وَكُنْتُ أَتَوَلَّى تَوْزِيعَهُ وَإِرْسَالَهُ مِنَ الرِّيَاضِ إِلَى كُلٍّ مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَمَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَكَانَ مُسْتَغْنِيًا بِعِفَّتِهِ وَقَنَاعَتِهِ. بَلْ إِنَّ حَقَّهُ الْخَاصَّ لَيَتْرُكُهُ تَعَفُّفًا عَنْهُ كَمَا فَعَلَ فِي مُؤَلَفَّاتِهِ وَهِيَ فَرِيدَةٌ فِي نَوْعِهَا، لَمْ يَقْبَلِ التَّكَسُّبَ بِهَا وَتَرَكَهَا لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَقَدْ جِئْتُ مَعِي مِنَ الْبِلَادِ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ يَكْفِينِي مَدَى الْحَيَاةِ وَأَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْقَنَاعَةُ. وَكَانَ شِعَارُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْجُوعُ يُطْرَدُ بِالرَّغِيفِ الْيَابِسَهْ ... فَعَلَامَ تَكْثُرُ حَسْرَتِي وَوَسَاوِسِي
وَكَانَ اهْتِمَامُهُ بِالْعِلْمِ عِنْدَهُ آلَةً وَوَسِيلَةً، وَعِلْمُ الْكِتَابِ وَحْدَهُ غَايَةٌ. وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِ الْأَدِيبِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ الْحَسَنِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:
لَا تَسُؤْ بِالْحِلْمِ ظَنًّا يَا فَتَى ... إِنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِالْعِلْمِ عَطَبْ
لَا يُزَهِّدْكَ أَحَدٌ فِي الْعِلْمِ إِنْ ... غَمَرَ الْجُهَّالُ أَرْبَابَ الْأَدَبْ
إِنْ تَرَ الْعَالِمَ نِضْوًا مِرْمَلًا ... صِفْرَ كَفٍّ لَمْ يُسَاعِدْهُ سَبَبْ
وَتَرَى الْجَاهِلَ قَدْ حَازَ الْغِنَى ... مُحْرِزَ الْمَأْمُولِ مِنْ كُلِّ أَرَبْ
قَدْ تَجُوعُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا ... وَالذِّئَابُ الْغُبْشُ تَعْتَامُ الْقَتَبْ
جَرِّعِ النَّفْسَ عَلَى تَحْصِيلِهِ ... مَضَضَ الْمُرَّيْنِ ذُلٌّ وَسَغَبْ
لَا نَهَابُ الشَّوْكَ قِطَافَ الْجَنَى ... وَإِبَارَ النَّحْلِ مُشْتَارَ الضَّرَبْ
حَقَا إِنَّهُ لِمَ يُسِئْ بِالْعِلْمِ ظَنًّا، وَلَمْ يَهَبْ فِي تَحْصِيلِهِ شَوْكَ النَّخْلِ وَلَا إِبَارَ النَّحْلِ، فَنَالَ مِنْهُ مَا أَرَادَ وَاقْتَحَمَ الْحِمَى عَلَى عَذَارَى الْمَعَانِي وَأَبَاحَ حَرِيمَهَا جَبْرًا عَلَيْهَا وَمَا كَانَ الْحَرِيمُ بِمُسْتَبَاحٍ.
أَمَّا مَكَارِمُ أَخْلَاقِهِ وَمُرَاعَاةُ شُعُورِ جُلَسَائِهِ، فَهَذَا فَوْقَ الِاسْتِطَاعَةِ، فَمُذْ صَحِبْتُهُ لَمْ أَسْمَعَ مِنْهُ مُقَالًا لِأَيِّ إِنْسَانٍ وَلَوْ مُخْطِئٍ عَلَيْهِ يَكُونُ فِيهِ جَرْحٌ لِشُعُورِهِ، وَمَا كَانَ يُعَاتِبُ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّغَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَحِينَمَا كُنْتُ أُسَائِلُهُ فِي ذَلِكَ يَقُولُ:
لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ ... لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي
وَلَمْ يَكُنْ يَغْتَابُ أَحَدًا أَوْ يَسْمَحُ بِغَيْبَةِ أَحَدٍ فِي مَجْلِسِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ لِإِخْوَانِهِ