الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُسْتَحِقِّ لِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَكَمَالِ الْأَسْمَاءِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالدَّوَامِ وَبِالْبَقَاءِ. خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ عَدَمٍ وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ. وَجَعَلَ الدُّنْيَا مَزْرَعَةَ الْآخِرَةِ، وَحَصَادَهَا الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ، وَاخْتَارَ مِنْ عِبَادِهِ رُسُلًا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ، فَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وُسَطَاءُ، وَاصْطَفَى - خَاتَمَهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ صَفْوَةُ الْأَصْفِيَاءِ، بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَجَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ، أَطَلَّ فَجْرُهَا بِمَكَّةَ مِنْ قِمَّةِ حِرَاءٍ.
وَأَشْرَقَتْ شَمْسُ نَهَارِهَا بِطَيِّبَةِ الْفَيْحَاءِ. ظَلَّتْ مُهَاجَرَ صَحْبِهِ فِي أُلْفَةٍ وَوَفَاءٍ، فَتَحَمَّلَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ تُرَاثَهُ - مَا وَرِثُوهُ مِنْهُ هِدَايَةً وَضِيَاءً - وَوَرَّثُوهُ مِنْ بَعْدِهِمْ تَوْرِيثَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ. وَغَدَتِ الْمَدِينَةُ مُشْرِقَةً أَنْوَارُهَا يُشِعُّ مِنْهَا لِلْعَالَمِ نُورٌ وَسَنَاءٌ. وَتَوَالَتِ الْأَجْيَالُ تِلْوَ أَجْيَالٍ إِنْتَاجُهَا لِلْعَالَمِ صَفْوَةُ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ قَامُوا لِلَّهِ حَقًّا، وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ صِدْقًا، وَنَشَرُوا الْعِلْمَ فِي عِفَّةٍ وَإِبَاءٍ، نَهَلُوا مِنَ الْمَنْهَلِ الصَّافِي مِنْ مَنْبَعِهِ، قَبْلَ أَنْ يُخَالِطَهُ التُّرْبُ أَوْ تُكَدِّرَهُ الدِّلَاءُ، فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ مَحَطُّ رِحَالِهِمْ، وَفِي الرَّوْضَةِ غُدُوُّهُمْ وَرَوَاحُهُمْ فِي غِبْطَةٍ وَهَنَاءٍ.
دَرَسُوا كِتَابَ اللَّهِ حُكْمًا وَحِكْمَةً، حَتَّى غَدَتْ آيَاتُهُ لِمَرْضَى الصُّدُورِ شِفَاءً، وَتَكَشَّفَتْ حُجُبُ الْمَعَانِي فَانْجَلَتْ مِنْ تَحْتِهَا أَشْمُسٌ وَضِيَاءٌ.
وَتَرَسَّمُوا سُنَنَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، وَكَذَاكَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ بِهِمْ أُسْوَةٌ وَاقْتِدَاءٌ، فَهُمُ النُّجُومُ فِي لَيْلِ السُّرَى، وَهُمُ الْهُدَاةُ لِطَالِبِ الْهُدَى وَأَدِلَّاءُ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَعَلَى الدِّينِ أُمَنَاءُ.
وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ أَشَدُّ إِحْسَاسًا بِمَكَانَةِ الْعِلْمِ وَمَنْزِلَةِ الْعُلَمَاءِ، وَأَسْرَعُ فَرَحًا بِهِمْ وَأَشَدُّ حُزْنًا عَلَى مَوْتِهِمْ، وَأَلَمًا لِفِرَاقِهِمْ، إِنَّ فِي مَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَغُرْبَةٌ لِلْغُرَبَاءِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآلَامَ تَزْدَادُ، وَهَذَا الْحُزْنَ يَشْتَدُّ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ حِينَمَا نَكُونُ قَدْ عَرَفْنَا هَذَا الْعَالِمَ أَوْ عَاصَرْنَاهُ، وَلَمَسْنَا فَضْلَهُ وَاسْتَفَدْنَا عِلْمَهُ.
وَهَذَا الْقَدْرُ كُنَّا فِيهِ سَوَاءً نَحْوَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَشَيْخِنَا الْأَمِينِ خَاصَّةً.
وَإِنِّي كَأَحَدِ أَبْنَائِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ أَقِفُ الْيَوْمَ مُعَزِّيًا مُتَعَزِّيًا، وَمُتَرْجِمًا مُتَرَحِّمًا،