فَعَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ: زَوَّارَاتٌ لَا تَشْمَلُ مُطْلَقَ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ لِلْمُكْثِرَاتِ ; لِأَنَّهُنَّ بِالْإِكْثَارِ لَا يَسْلَمْنَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَعْدَادِ مَآثِرِ الْمَوْتَى الْمَحْظُورِ فِي أَصْلِ الْآيَةِ.
أَمَّا مُجَرَّدُ زِيَارَةٍ بِدُونِ إِكْثَارٍ وَلَا مُكْثٍ، فَلَا.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا ذَكَرَ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، السَّلَامَ عَلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ، فَقَالَتْ: «وَمَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَنَا زُرْتُ الْقُبُورَ؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ آلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» الْحَدِيثَ.
فَأَقَرَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهَا تَزُورُ الْقُبُورَ وَعَلَّمَهَا مَاذَا تَقُولُ إِنْ هِيَ زَارَتْ.
وَكَذَلِكَ بِقِصَّةِ مُرُورِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تَبْكِي عِنْدَ الْقَبْرِ فَكَلَّمَهَا، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مَنْ هُوَ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهَا قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَتْ تَعْتَذِرُ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» .
وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْمَنْعَ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، مَعَ أَنَّهُ رَآهَا تَبْكِي.
وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي السَّمَاحِ بِالزِّيَارَةِ. وَمِنْ نَاحِيَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ النَّتِيجَةَ مِنَ الزِّيَارَةِ لِلرِّجَالِ مَنْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا كَذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ.
وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِخَاصَّةٍ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، بَلْ قَدْ يَكُنُّ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ.
وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، هُوَ الْجَوَازُ لِمَنْ لَمْ يُكْثِرْنَ وَلَا يَتَكَلَّمْنَ بِمَا لَا يَلِيقُ، مِمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ آخَرُ
مِنْ لَطَائِفِ الْقَوْلِ فِي التَّفْسِيرِ، مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّانَ عَنِ التَّكَاثُرِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، مَا نَصُّهُ:
وَقِيلَ هَذَا تَأْنِيبٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ زِيَارَةٍ، تَكْثِيرًا بِمَنْ سَلَفَ وَإِشَادَةً بِذِكْرِهِ، وَكَانَ