وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَكُونَ نَزَلَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبَدْءِ نُزُولِ أَوَّلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [96 \ 1] ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

وَقَدْ أُثِيرَ حَوْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جِدَالٌ وَنِقَاشٌ كَلَامِيٌّ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَأَدْخَلُوا فِيهَا الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَقَلَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَدْ سُئِلَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكُتِبَ جَوَابُهُ وَطُبِعَ، فَكَانَ كَافِيًا. وَقَدْ نَقَلَ فِيهِ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ وَحْيِهِ، وَرَدَّ عَلَى كُلِّ شُبْهَةٍ فِي ذَلِكَ.

وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ كَمَا تَقَدَّمَ، بَيْنَ كَوْنِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، وَنُزُولِهِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا ; لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَإِنَّ اللَّوْحَ فِيهِ كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَنُزُولُهُ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَهُوَ بِمَثَابَةِ نَقْلِ جُزْءٍ مِمَّا فِي اللَّوْحِ وَهُوَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ، فَأَصْبَحَ الْقُرْآنُ مَوْجُودًا فِي كُلٍّ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَمَوْجُودًا فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَنْزِلُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ الْآنَ هُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَمْ يَخْلُ مِنْهُ اللَّوْحُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِإِنْزَالِهِ جُمْلَةً ثُمَّ تَنْزِيلِهِ مُنَجَّمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ; لِأَنَّ نَزَّلَ بِالتَّضْعِيفِ تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ كَقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ [97 \ 4] ، أَيْ: فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ.

وَقَدْ جَاءَ أَنْزَلْنَاهُ، فَتَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ تَفْصِيلَ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015