فَالْقَادِرُ عَلَى إِيجَادِ إِنْسَانٍ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مِنْ هَذِهِ الْعَلَقَةِ، قَادِرٌ عَلَى جَعْلِكَ قَارِئًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الْقِرَاءَةَ مِنْ قَبْلُ، كَمَا أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ الْعَلَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَتَعَهَّدُ تِلْكَ الْعَلَقَةَ حَتَّى تَكْتَمِلَ إِنْسَانًا يَتَعَهَّدُهَا بِالرِّسَالَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ بِالذَّاتِ وَبِخُصُوصِهِ لِتَفْصِيلِ مَرْحَلَةِ وَجُودِهِ، أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ تَعْلَمْ مَبَادِئَ خِلْقَتِهَا كَعِلْمِهِمْ بِالْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي السُّورَةِ قَبْلَهَا: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْعَلَقَةِ كَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَمِنْ حُسْنِ تَقْوِيمٍ إِنْزَالُ الْكِتَابِ الْقَيِّمِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ دَلَالَةٍ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ، فَبَدَأَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ وَيُسَلِّمُونَ بِهِ لِلَّهِ، وَلَمْ يَبْدَأْ مِنَ النُّطْفَةِ أَوِ التُّرَابِ ; لِأَنَّ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ لَمْ يُشَاهِدُوهُ، وَلِأَنَّ النُّطْفَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمٍ لَهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ، فَقَدْ تُقْذَفُ فِي غَيْرِ رَحِمٍ كَالْمُحْتَلِمِ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ، وَلَا تَكُونُ مُخَلَّقَةً. اهـ.
وَهَذَا فِي ذَاتِهِ وَجِيهٌ، وَلَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السُّورَةَ فِي مُسْتَهَلِّ الْوَحْيِ وَبِدَايَتِهِ، فَهِيَ كَالَّذِي يَقُولُ: إِذَا كُنْتُ بَدَأْتُ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكَ، فَلَيْسَ هُوَ بِأَكْثَرَ مِنْ إِيجَادِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا.
وَعَلَيْهِ يُقَالُ: لَقَدْ تُرِكَتْ مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ مُقَابِلَ مَرْحَلَةٍ مِنَ الْوَحْيِ، قَدْ تُرِكَتْ أَيْضًا وَهِيَ فَتْرَةُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ الْوَحْيُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا فَتَأْتِي كَفَلَقِ الصُّبْحِ» فَكَانَ ذَلِكَ إِرْهَاصًا لِلنُّبُوَّةِ وَتَمْهِيدًا لَهَا لِمُدَّةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» وَهِيَ نِسْبَةُ نِصْفِ السَّنَةِ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مُدَّةِ الْوَحْيِ، وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ قَدْ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ تَمَامًا فَتْرَةُ النُّطْفَةِ، فَقَدْ تَكُونُ النُّطْفَةُ وَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ، كَمَا تَكُونُ الرُّؤْيَا وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ، أَمَّا الْعَلَقَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي رَحِمٍ وَقَرَارٍ مَكِينٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَأْتِي الْإِنْسَانُ مُخَلَّقًا كَامِلًا، أَوْ غَيْرَ مُخَلَّقٍ عَلَى مَا يُقَدَّرُ لَهُ.
فَلَمَّا كَانَتْ فَتْرَةُ النُّطْفَةِ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ مِثْلُهَا فَتْرَةَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِلنُّبُوَّةِ تُرِكَ كُلٌّ مِنْهَا مُقَابِلَ الْآخَرِ، وَيَبْدَأُ الدَّلِيلُ بِمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُسَلَّمُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ، وَالْخَالِقُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، فَكَانَ فِيهِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَاتِيَّةِ الْمُسْتَدِلِّ،