تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ فَلَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
وَقَدْ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي شَهِيدٍ ; لِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ هَذَا الْمَقَامِ، كَمَا فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْفِعْلِ، كَمَا كَانُوا قُعُودًا عَلَى النَّارِ وَشُهُودًا عَلَى إِحْرَاقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ سَيُعَامِلُهُمْ بِالْمِثْلِ، إِذْ يَحْرِقُهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَ «فَتَنُوا» بِمَعْنَى أَحْرَقُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي كُلِّ مَنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَرُدُّوهُمْ عَنْهُ بِأَيِّ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ وَالتَّعْذِيبِ.
وَقَدْ رَجَّحَ الْأَخِيرَ أَبُو حَيَّانَ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى ; لِيَشْمَلَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ بِالْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، وَتَوْجِيهِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِمَّا أَوْقَعُوهُ بِضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: كَعَمَّارٍ، وَبِلَالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَيُرَجِّحُ هَذَا الْعُمُومَ الْعُمُومُ الْآخَرُ الَّذِي يُقَابِلُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [85 \ 11] فَهَذَا عَامٌّ بِلَا خِلَافٍ فِي كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فِي مَقَامِ الْمَنْطُوقِ بِالْمَفْهُومِ مِنَ «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ
قِيلَ: يُبْدِئُ الْخَلْقَ وَيُعِيدُهُ، كَالزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ وَالْإِنْسَانِ، بِالْمَوْلِدِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ بِالْبَعْثِ.
وَقِيلَ: يَبْدَأُ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ وَيُعِيدُهُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [4 \ 56] .
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهَا أَوْفَرَ مَا تَكُونُ سِمَنًا، فَتَطَؤُهُ بِخِفَافِهَا، فَتَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا أُعِيدَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ فَيَرَى مَصِيرَهُ إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ»