وَقَدْ فَصَّلَ أَبُو حَيَّانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، فَالشَّاهِدُ الْإِنْسَانُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ كُلَّ مَنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا.
وَقَالَ: كُلٌّ لَهُ مُتَمَسِّكٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ يَكْفِي عَنِ الْيَوْمِ الْمَشْهُودِ، بَلْ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَشْهَدُ فِيهِ، وَتُقَامُ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا سَيُعْرَضُ فِيهِ ; لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَلْقِ لَا لِإِثْبَاتِ الْحَقِّ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَعْدَادُ الشُّهُودِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، مِمَّا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ.
وَمُجْمَلُ ذَلِكَ أَنَّهَا تَكُونُ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَأَعَمَّ مِنَ الْعَامَّةِ، فَمِنَ الْخَاصَّةِ: شَهَادَةُ الْجَوَارِحِ عَلَى الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [41 \ 20] ، وَقَوْلِهِ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [36 \ 65] ، وَهَذِهِ شَهَادَةُ فِعْلٍ وَمَقَالٍ لَا شَهَادَةُ حَالٍ، كَمَا بَيَّنَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [41 \ 21 - 22] ، وَرَدَّ اللَّهُ زَعْمَهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [41 \ 23] .
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُ شَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ فِي سُورَةِ «يس» وَفِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [4 \ 42] ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْحَفَظَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [50 \ 23] ، وَقَوْلِهِ: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [50 \ 21] ، ثُمَّ شَهَادَةُ الرُّسُلِ كُلُّ رَسُولٍ عَلَى أُمَّتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ -: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [5 \ 117] ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْحَيَاةِ فَسَيُؤَدِّيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَكَقَوْلِهِ فِي عُمُومِ الْأُمَمِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [16 \ 89] .