وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِالْعُرْفِ وَهُوَ: لَوْ سَأَلْتَ مَنْ صَلَّى فِي مِثْلِ ذَلِكَ: أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ أَفِي قُبَاءٍ؟ أَمْ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ؟ لَقَالَ: بَلْ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. فَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ مُسَمَّى الْمَسْجِدِ عُرْفًا.
الْمَبْحَثُ السَّادِسُ.
وَهُوَ عِنْدَ الزِّحَامِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَاصَّةً، وَفِي بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ عَامَّةً. حِينَمَا يَضِيقُ الْمَكَانُ وَيُضْطَرُّ الْمُصَلُّونَ لِلصَّلَاةِ فِي صُفُوفٍ عَدِيدَةٍ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَأَمَامَ الْإِمَامِ مُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ بِعِدَّةِ صُفُوفٍ، فَمَا حُكْمُ صَلَاةِ هَؤُلَاءِ؟
قَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ الْخِلَافَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَأَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذْهَبِ هُوَ الصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الصِّحَّةَ كَذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لَهَا بِصَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَابْنُ عَبَّاسٍ آنَذَاكَ غُلَامٌ، فَقَامَ عَلَى يَسَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ يَمِينِهِ ; تَكْرِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا شَعَرَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْدَ أَنْ كَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَخَذَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ وَنَقَلَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَجَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ يَمِينِهِ بِحِذَائِهِ فِي مَوْقِفِ الْوَاحِدِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ مَعَ الْإِمَامِ.
وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ أَرْبَعٌ: خَلْفَهُ ; وَهِيَ لِلْكَثِيرِينَ مِنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا. وَعَنْ يَمِينِهِ ; وَهُوَ مَوْقِفُ الْفَرْدِ، وَيَسَارَهُ وَأَمَامَهُ. أَمَّا الْيَسَارُ ; فَقَدْ وَقَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَيْسَ بِمَوْقِفٍ، فَأَخَذَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ.
وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَأَوْقَعَ بَعْضَ صِلَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَقَدْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ حَيْثُ بَنَى عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي سَبَقَ أَنْ أَوْقَعَهُ عَنِ الْيَسَارِ ; لِضَرُورَةِ الْجَهْلِ بِالْمَوْقِفِ.
وَبَقِيَتْ جِهَةُ الْإِمَامِ ; فَلَيْسَتْ بِجِهَةِ مَوْقِفٍ، وَلَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلِلزَّحْمَةِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ بُدٌّ، فَجَازَتْ أَوْ فَصَحَّتْ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا صَحَّتْ عَنْ يَسَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.
وَيُقَوِّي هَذَا الِاسْتِدْلَالَ: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ شَخْصٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَكَانًا إِلَّا بِجِوَارِ