مِنَ الْعَبْدِ، مَنْ يُحْيِي الْمَخْلُوقَ جُمْلَةً ; لِأَنَّهُ يُوقِفُهُ عَلَى عِدَّةِ مَرَاحِلَ مِنْ حَيَاتِهِ وَإِيجَادِهِ، وَكُلُّ طَوْرٍ مِنْهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ مَوْجُودٌ فِي الظَّوَاهِرِ الْكَوْنِيَّةِ أَيْضًا مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ، فَالسَّمَاءُ كَانَتْ دُخَانًا وَكَانَتْ رَتْقًا فَفَتَقَهُمَا، وَالْأَرْضُ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَبَيَّنَ الْجَمِيعَ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [79 \ 27 - 32] . وَأَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي «فُصِّلَتْ» قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا [41 \ 9 - 12] . ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى هَذَا التَّفْصِيلَ الْكَامِلَ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [41 \ 12] ، فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَطْوَارَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّهُ بِعِلْمٍ، وَمِنَ الْعَزِيزِ سُبْحَانَهُ، فَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ خَلْقُهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَلَكِنَّ الْعَرْضَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَبْعَدُ أَثَرًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا ثَلَاثَةُ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي كَثُرَ مَجِيئُهَا فِي الْقُرْآنِ:
الْأُولَى: خَلْقُ الْإِنْسَانِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] .
وَالثَّانِيَةُ: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] .