فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. السُّورَةَ [109 \ 1 - 3] .
وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي قَصْدِهِمْ بِالْمُدَاهَنَةِ، وَالدَّافِعُ عَلَيْهَا وَالْجَوَابُ عَلَيْهِمْ قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [2 \ 109] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا مَوْقِفَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْمُحَاوَلَةِ بِقَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [2 \ 109] .
وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ مُدَاهَنَةٍ فِي الدِّينِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.
وَقَدْ جَاءَ بَعْدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُطَاعُونَ فِي مُدَاهَنَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ سَيَبْذُلُونَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ; لِتَرْوِيجِ مُدَاهَنَتِهِمْ وَلَوْ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُلَاطَفَةِ فِي الدُّنْيَا، أَوِ التَّعَاوُنِ وَتَبَادُلِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ الْآيَةَ [60 \ 8] . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ
هَذَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ ; يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُمْ أَجْرًا عَلَى دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [42 \ 23] . فَالْأَجْرُ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ الْأَجْرُ الْمَادِّيُّ بِالْمَالِ وَنَحْوِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: مَبْحَثُ الْأَجْرِ عَلَى الدَّعْوَةِ مِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وَمَبْحَثُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي أَصْلُهَا مَزِيَّةُ اللَّهِ ; بَحْثًا وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [11 \ 29] مِنْ سُورَةِ هُودٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هُوَ صَاحِبُ الْحُوتِ، وَلَا نِدَاءَهُ وَهُوَ مَكْظُومٌ، وَلَا الْوَجْهَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى صَاحِبَ الْحُوتِ فِي (الصَّافَّاتِ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يُونُسَ