أَمَّا الْأَحْنَافُ، فَقَالَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ نُسِبَ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ، وَسَبَبُ غَلَطِهِمْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ: وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حَرُمَ عَلَيْهِ وَصَحَّتِ الظُّهْرُ بِتَرْكِ الْفَرْضِ، إِلَى آخِرِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا فَرْضٌ آكَدُ مِنَ الظُّهْرِ، وَذَكَرَ أَوَّلَ الْبَابِ، اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِهَا وَجَهْلِ مَنْ نَسَبَ إِلَى مَذْهَبِهِمِ الْقَوْلَ بِعَدَمِ فَرْضِيَّتِهَا، وَهَذِهِ أَيْضًا حَقِيقَةُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَنَّهَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ آكَدُ مِنَ الظُّهْرِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَالَ فِي الْمُغْنِي مَا نَصُّهُ: الْأَصْلُ فِي فَرْضِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَسَاقَ الْآيَةَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْآيَةَ، وَقَالَ بَعْدَهَا: فَصْلٌ: وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ وَالسَّعْيُ إِلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ مَنْ يُقِيمُهَا سُنِّيًّا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، حَتَّى مَعَ الْإِمَامِ غَيْرِ الْعَادِلِ وَغَيْرِ السُّنِّيِّ.
فَهَذِهِ نُصُوصُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَفَرْضِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَدْنَى شُبْهَةٍ يَلْتَمِسُهَا مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ، وَلَا تَتَبُّعِ شَوَاذِّهِ لِلتَّهَاوُنِ بِفَرْضِ الْجُمُعَةِ لِنِيَابَةِ الظُّهْرِ عَنْهَا.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ، وَأَنَّهُ لَا صَارِفَ لِلْأَمْرِ عَنْ وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَعَ الْأَمْرِ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الْبَيْعِ وَاجِبًا مِنْ أَجْلِهَا فَمَا وَجَبَ هُوَ مِنْ أَجْلِهِ كَانَ وُجُوبُهُ هُوَ أَوْلَى، قَالَ فِي الْمُغْنِي: فَأَمَرَ بِالسَّعْيِ، وَيَقْتَضِي الْأَمْرُ الْوُجُوبَ وَلَا يَجِبُ السَّعْيُ إِلَّا إِلَى الْوَاجِبِ، وَنَهَى عَنِ الْبَيْعِ لِئَلَّا يُشْغَلَ بِهِ عَنْهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا نَهَى عَنِ الْبَيْعِ مِنْ أَجْلِهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ لِتَارِكِهَا بِدُونِ عُذْرٍ مَشْهُورَةٌ تُؤَكِّدُ هَذَا الْوُجُوبَ.
مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَنْهُ.
وَفِي الْمُنْتَقَى، قَالَ: رَوَاهُ الْخَمْسَةُ أَيْ مَا عَدَا الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا، وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ