الثَّانِيَةُ: الْإِنْفَاقُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [2 \ 177] ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا الْآيَةَ [76 \ 8] .

الثَّالِثَةُ: الْإِنْفَاقُ مَعَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ كَهَذِهِ الْآيَةِ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْخَاصِّ الْأَوَّلِ.

وَتُعْتَبَرُ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى هِيَ الْحَدُّ الْأَدْنَى فِي الْوَاجِبِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزَّكَاةُ، وَهِيَ تَشْمَلُ النَّافِلَةَ، وَتَصْدُقُ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ وَلَوْ شِقِّ تَمْرَةٍ، وَتَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [99 \ 7] ، وَتُعْتَبَرُ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الْحَدُّ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّهَا إِيثَارٌ لِلْغَيْرِ عَلَى خَاصَّةِ النَّفْسِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْوُسْطَى بَيْنَهُمَا، وَهِيَ الْحَدُّ الْوَسَطُ بَيْنَ الِاكْتِفَاءِ بِأَقَلِّ الْوَاجِبِ، وَبَيْنَ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَهِيَ مِيزَانُ التَّوَسُّطِ لِعَامَّةِ النَّاسِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [17 \ 29] ، وَكَمَا امْتَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا بِالِاعْتِدَالِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [25 \ 67] .

وَهَذَا هُوَ عَيْنُ تَطْبِيقِ قَاعِدَةِ الْفَلْسَفَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْقَائِلَةِ: الْفَضِيلَةُ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ أَيْ: طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَالشَّجَاعَةُ مَثَلًا وَسَطٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَالْكَرَمُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّقْتِيرِ.

وَلِلْإِنْفَاقِ جَوَانِبُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَحْكَامٌ مُتَفَاوِتَةٌ، قَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَانِبًا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْجَوَانِبَ الْأُخْرَى، وَتَنْحَصِرُ فِي الْآتِي: نَوْعِ مَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ، الْجِهَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا، مَوْقِفِ الْمُنْفِقِ، وَصُورَةِ الْإِنْفَاقِ.

أَمَّا مَا يَقَعُ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ: قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى أَوَّلًا مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [2 \ 267] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [3 \ 92] .

أَمَّا الْجِهَةُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا: فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015