فَلَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَسْتَدِلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ السُّنَةِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ وَضْعِ الْجَرِيدِ الْأَخْضَرِ عَلَى الْقَبْرِ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ: " لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ". أَيْ: بِسَبَبِ تَسْبِيحِهِمَا، فَإِذَا يَبِسَا انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُمَا. اهـ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْأَوَّلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِعِدَّةِ أُمُورٍ:
أَوَّلًا: لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [17 \ 44] .
ثَانِيًا: أَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَسْبِيحِ الدَّلَالَةِ، هُوَ تَحْكِيمُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، حِينَمَا لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ وَلَمْ تَتَصَوَّرْهُ الْعُقُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْحِسِّيِّ هُنَا، وَخَطَرَ عَلَى الْعَقْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) .
ثَالِثًا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [21 \ 79] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) [38 \ 18] ، فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحُهَا مَعَهُ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ كَمَا يَقُولُونَ لَمَا كَانَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خُصُوصِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ.
رَابِعًا: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا إِدْرَاكًا تَامًّا كَإِدْرَاكِ الْإِنْسَانِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [33 \ 72] ، فَأَثْبَتَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْعَوَالِمِ إِدْرَاكًا وَإِشْفَاقًا مِنْ تَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ، بَيْنَمَا سَجَّلَ عَلَى الْإِنْسَانِ ظُلْمًا وَجَهَالَةً فِي تَحَمُّلِهِ إِيَّاهَا، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَرْضُ مُجَرَّدَ تَسْخِيرٍ، وَلَا هَذَا الْإِبَاءُ مُجَرَّدَ سَلْبِيَّةٍ، بَلْ عَنْ إِدْرَاكٍ تَامٍّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [41 \ 11] ، فَهُمَا طَائِفَتَانِ لِلَّهِ، وَهُمَا يَأْبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَ الْأَمَانَةَ إِشْفَاقًا مِنْهَا.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [59 \ 21] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [2 \ 74] ،