أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْمَرًا الْمَذْكُورَ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ طَعَامُهُمْ يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ، فَقَدْ عَيَّنَ أَنَّ عُرْفَهُمُ الْمُقَارِنَ لِلْخِطَابِ يُخَصِّصُ الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ بِالشَّعِيرِ.

وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكٍ: أَنَّ الْعُرْفَ الْمُقَارِنَ لِلْخِطَابِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ الَّتِي يُخَصَّصُ بِهَا الْعَامُ قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي ذَلِكَ:

وَالْعُرْفُ حَيْثُ قَارَنَ الْخِطَابَا ... وَدَعْ ضَمِيرَ الْبَعْضِ وَالْأَسْبَابَا

الْأَمْرُ الثَّانِي: إِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى فَرْضِ اعْتِبَارِ عُمُومِهِ، وَعَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْعُرْفِ الْمَذْكُورِ، يَقْتَضِي أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَيَدْخُلُ التَّمْرُ وَالْمِلْحُ لِصِدْقِ الطَّعَامِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ كَمَا تَرَى.

فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ، بِأَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ أَجْنَاسٌ.

وَأَنَّ الْقَمْحَ يُبَاعُ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شَاءَ الْمُتَبَايِعَانِ إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ.

وَأَمَّا التَّدْمِيَةُ الْبَيْضَاءُ فَقَوْلُ مَالِكٍ فِيهَا يُظْهِرُ لَنَا قُوَّتَهُ وَاتِّجَاهَهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَدْ بَيَّنَ وَجْهَ قَوْلِ مَالِكٍ فِيهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمَا.

وَالْمَسَائِلُ الَّتِي قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ مَالِكًا خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا.

وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ سُجُودِ الشُّكْرِ وَسَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَعَدَمُ الْجَهْرِ بِآمِينَ، وَعَدَمُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَعَدَمُ قَوْلِ الْإِمَامِ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَعَدَمُ ضَفْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ ثَلَاثَ ضَفَائِرَ، وَتَرْكُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْحَجِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ بَعْضَ مَا تَرَكَ مَالِكٌ مِنَ النُّصُوصِ قَدْ بَلَغَتْهُ فِيهِ السُّنَّةُ وَلَكِنَّهُ رَأَى غَيْرَهَا أَرْجَحَ مِنْهَا، وَأَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَبْلُغْهُ، وَأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ مَقْبُولٌ وَمَرْدُودٌ، إِلَّا كَلَامَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ.

وَهُوَ تَارَةٌ يُقَدِّمُ دَلِيلَ الْقُرْآنِ الْمُطْلِقَ أَوِ الْعَامَّ عَلَى السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ ; لِأَنَّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015