وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ أَخْذٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] ، وَيَقُولُ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالْأَخْذُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ إِذًا مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ تَقْلِيدًا أَعْمَى.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّاهِدَ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا أَدْرَكَهُ بِإِحْدَى حَوَاسِّهِ، وَالْمُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ لِمَنْ أَدْرَكَهُ بِخِلَافِ الرَّأْيِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ.

وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى حِسٍّ، وَبَيْنَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى عَقْلٍ.

فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ يُوجِبُ الْعِلْمَ الْمُفِيدَ لِلْقَطْعِ لِاسْتِنَادِهِ إِلَى الْحِسِّ.

وَأَنَّ الثَّانِيَ لَا يُوجِبُهُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْمَعْقُولَاتِ لَكَانَ قِدَمُ الْعَالَمِ مَقْطُوعًا بِهِ ; لِأَنَّهُ تَوَاتَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ خَلْقٌ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ.

مَعَ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، فَالَّذِينَ تَوَاتَرُوا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ لَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ لَوْ تَوَاتَرَ عُشْرُهُمْ عَلَى أَمْرٍ مَحْسُوسٍ لَأَفَادَ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ فِيهِ.

فَالشَّاهِدُ إِنْ أَخْبَرَ عَنْ مَحْسُوسٍ، وَكَانَ عَدْلًا، فَهُوَ عَدْلٌ مُخْبِرٌ عَمَّا قُطِعَ بِهِ قَطْعًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الشَّكُّ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّهُ عَدْلٌ أَخْبَرَ عَمَّا ظَنَّهُ، فَوُضُوحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا تَرَى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015