وَلَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ الْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةً ثَابِتَةً، سَالِمًا مِنَ الْمُعَارِضِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، لَا تَسُوغُ مُخَالَفَتُهُمَا الْبَتَّةَ لِأَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَيَجِبُ التَّفَطُّنُ ; لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي فِيهِ التَّقْلِيدُ يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ الْوَحْيِ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارِضِ.

قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: مُخْتَصَرًا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مَا نَصُّهُ:

(وَالْمَذْهَبُ لُغَةً: الطَّرِيقُ وَمَكَانُ الذَّهَابِ، ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِمَامٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ) انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

فَقَوْلُهُ: مِنَ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَذْهَبِ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَوَاقِعَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ السَّالِمَةِ مِنَ الْمُعَارِضِ.

وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ ; لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ إِذَا أَقَامَ بِاجْتِهَادِهِ دَلِيلًا، مُخَالِفًا لِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَنَّ دَلِيلَهُ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَأَنَّهُ يَرُدُّ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى فِي الْأُصُولِ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ.

وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ الَّذِي هُوَ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ لِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مِنَ الْقَوَادِحِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِي إِبْطَالِ الدَّلِيلِ بِهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي الْقَوَادِحِ:

وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادًا ... لِاعْتِبَارِ كُلِّ مَنْ وَعَى وَبِمَا ذَكَرْنَا

تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ أَصْلًا وَلَا تَقْلِيدَ أَصْلًا فِي شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ.

وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَجَازَ التَّقْلِيدَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ الْوَحْيِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الصَّاوِيِّ وَأَضْرَابِهِ.

وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَذَاهِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَأَزْمَانٍ قَبْلَهُ.

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَنَعَ التَّقْلِيدَ مُطْلَقًا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّوْكَانِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمُفِيدِ فِي أَدِلَّةِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015