141

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْعِزَّةَ الَّتِي هِيَ لَهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ بِهَا رَسُولَهُ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [63 \ 8] ، أَيْ: وَذَلِكَ بِإِعْزَازِ اللَّهِ لَهُمْ وَالْعِزَّةُ الْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [38 \ 23] ، أَيْ: غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَنْ عَزَّ بَزَّ يَعْنُونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ: [الْمُتَقَارِبُ]

كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى ... إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، هَذَا الْمَنْزِلُ الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [6 \ 68] ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ، لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ حُكْمَ مَا إِذَا نَسُوا النَّهْيَ حَتَّى قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي «الْأَنْعَامِ» بِقَوْلِهِ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْجُهٌ لِلْعُلَمَاءِ:

مِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبِيلًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ الْآيَةَ [4 \ 141] ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ زَاعِمًا أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى أَوَّلِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَأْصِلُهُمْ وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، أَنَّهُ قَالَ: «وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَانِي لِأُمَّتِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [40 \ 51] ، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015