وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ افْتِرَاقُ الْيَهُودِ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَافْتِرَاقُ النَّصَارَى إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتِرَاقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ.

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.

بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أَيْ شَقَّ عَلَيْهِمْ وَعَظُمَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَطَاعَتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَلِعِظَمِ ذَلِكَ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي عَدَمِ سَمَاعِهِ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ لَهُ، بَلْ يَكَادُونَ يَبْطِشُونَ بِمَنْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهَا.

وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَادَةُ الْكَافِرِينَ مَعَ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - مَشَقَّةَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَكِبْرَهُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [10 \ 71] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [71 \ 7] .

فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ، فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّهُمْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [22 \ 72] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الْآيَةَ - يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى شِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَكَرَاهِيَتِهِمْ لِسَمَاعِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ الْآيَةَ [41 \ 26] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الزُّخْرُفِ» : لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [43 \ 78] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015