يَعْنِي: يَكُنْ عَذَابُهُ دَائِمًا لَازِمًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:
وَيَوْمُ النِّسَارِ وَيَوْمُ الْجِفَا ... رِ كَانَا عَذابًا وَكَانَا غَرَامَا
وَذَلِكَ هُوَ الْأَظْهَرُ أَيْضًا فِي قَوْلِ الْآخَرِ:
وَمَا أَكْلَةٌ إِنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ... وَلَا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَامِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: وَلَمْ يُقْتِرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ التَّاءِ، مُضَارِعُ أَقْتَرَ الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَلَمْ يَقْتِرُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، مُضَارِعُ قَتَرَ الثُّلَاثِيِّ كَضَرَبَ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَلَمْ يَقْتُرُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، مُضَارِعُ قَتَرَ الثُّلَاثِيِّ كَنَصَرَ، وَالْإِقْتَارُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، وَالْقَتْرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّضْيِيقُ الْمُخِلُّ بِسَدِّ الْخَلَّةِ اللَّازِمُ، وَالْإِسْرَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يُسْرِفُوا، مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِتَوَسُّطِهِمْ فِي إِنْفَاقِهِمْ، فَلَا يُجَاوِزُونَ الْحَدَّ بِالْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَقْتُرُونَ، أَيْ: لَا يُضَيِّقُونَ فَيَبْخَلُونَ بِإِنْفَاقِ الْقَدْرِ اللَّازِمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْإِسْرَافُ فِي الْآيَةِ: الْإِنْفَاقُ فِي الْحَرَامِ وَالْبَاطِلِ، وَالْإِقْتَارُ مَنْعُ الْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا الْآيَةَ، أَيْ: لَيْسُوا مُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ، فَيَصْرِفُوا فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ، فَيُقَصِّرُوا فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُوهُمْ بَلْ عَدْلًا خِيَارًا، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، أَيْ: بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ قَوَامًا أَيْ: عَدْلًا وَسَطًا سَالِمًا مِنْ عَيْبِ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ.
وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ عِنْدِي فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: قَوَامًا خَبَرُ