مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، وَأَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيبُوا الرُّسُلَ لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهِمُ الشَّقَاءَ وَهُمْ مُيَسَّرُونَ لِمَا خُلِقُوا لَهُ، فَلِذَلِكَ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ.

قَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

وَقَوْلِهِ هُنَا: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ، وَأَنْذَرَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ، وَلَكِنْ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ شَقَاوَتِهِمُ الْأَزَلِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، لِيَصِيرُوا إِلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ - جَلَّ وَعَلَا -، مِنْ شَقَاوَتِهِمْ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] وَقَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [39 \ 71] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيْضَاحًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [64 \ 2] وَقَوْلُهُ: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [11 \ 118 - 119] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ، اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِضَلَالِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ وَلَا النَّدَمُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 11] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَهَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ، هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتُنَا وَأَهْوَاؤُنَا، فَسَمَّى اللَّذَّاتِ وَالْأَهْوَاءَ شِقْوَةً ; لِأَنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [4 \ 10] ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ. اهـ، تَكَلُّفٌ مُخَالِفٌ لِلتَّحْقِيقِ.

ثُمَّ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ بِقِيلٍ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ حُسْنُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِالْخُلُقِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ هُنَا: قَوْمًا ضَالِّينَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015