فِي الْإِيجَابِ وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ عَنْ دَلَالَةِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيُعِدْ، وَقَوْلِهِ: فَلْيَذْبَحْ وَقَالَ: لَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ، لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهَا أَوْ مَنْ أَوْقَعَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ خَطَأً أَوْ جَهْلًا، فَبَيَّنَ لَهُ وَجْهَ تَدَارُكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ ".
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي لَمْ تَتَّضِحْ فِيهِ دَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ إِيضَاحًا بَيِّنًا أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ، فَلَا يَتْرُكُ الْأُضْحِيَّةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ "، فَلَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا لِقَادِرٍ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ أَدَاءَهَا هُوَ الَّذِي يَتَيَقَّنُ بِهِ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
الْأَوَّلُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ، وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ وُجُوبَهَا خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَا تَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ، وَقَدِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ بِهِ الْحَاجَّ بِمِنًى، قَالُوا: لَا تُسَنُّ لَهُ الْأُضْحِيَّةُ ; لِأَنَّ مَا يَذْبَحُهُ هَدْيٌ لَا أُضْحِيَّةٌ، وَخَالَفَهُمْ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ نَظَرًا لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْأُضْحِيَّةِ فِي الْحَاجِّ وَغَيْرِهِ، وَلِبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُصَرِّحَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لِلْحَاجِّ بِمِنًى. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الْأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفٍ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ، وَهِيَ تَبْكِي» . الْحَدِيثَ وَفِيهِ: «فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ» اهـ. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ» ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ فَقَالَتْ: «وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ» اهـ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. قَالُوا: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِبَقَرٍ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى» ، وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ لِلْحَاجِّ بِمِنًى.