بَعْضَ رُءُوسِكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أَيْ: رُءُوسَكُمْ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَظَاهَرُهُ حَلْقُ الْجَمِيعِ أَوْ تَقْصِيرُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» . فَمَنْ حَلَقَ الْجَمِيعَ أَوْ قَصَّرَهُ تَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ أَوْ عَلَى رُبُعِ الرَّأْسِ، لَمْ يَدَعْ مَا يَرِيبُهُ، إِذْ لَا دَلِيلَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَّقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَأَعْطَى شَعْرَ رَأْسِهِ لِأَبِي طَلْحَةَ لِيُفَرِّقَهُ عَلَى النَّاسِ. وَفِعْلُهُ فِي الْحَلْقِ بَيَانٌ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَلْقِ كَقَوْلِهِ: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا كَانَ بَيَانًا لِنَصٍّ مُجْمَلٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ حُكْمٍ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمُبَيِّنَ لِذَلِكَ النَّصِّ وَاجِبٌ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ.
تَنْبِيهٌ آخَرُ
اعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِ الْحَلْقِ أَفْضَلَ مِنَ التَّقْصِيرِ، إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً. أَمَّا النِّسَاءُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ حَلْقٌ وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ.
وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا: وُجُوبُ تَقْصِيرِ الْمَرْأَةِ جَمِيعَ رَأْسِهَا وَيَكْفِيهَا قَدْرُ الْأُنْمُلَةِ ; لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَقْصِيرٌ مِنْ غَيْرِ مُنَافَاةٍ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ شَعْرَ الْمَرْأَةِ مِنْ جَمَالِهَا، وَحَلْقَهُ مُثْلَةٌ وَتَقْصِيرُهُ جِدًّا إِلَى قُرْبِ أُصُولِ الشِّعْرِ نَقْصٌ فِي جَمَالِهَا، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ النِّسَاءَ لَا حَلْقَ عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَتَكِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» .
حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيُّ ثِقَةٌ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عُثْمَانَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ» انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» ، فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ