وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا كُنْتَ فَاعِلًا فِي حَجِّكَ " انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
قَالُوا: فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ ثَلَاثًا، وَإِنْقَاؤُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَا صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ إِزَالَةِ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ، الَّذِي تَلَبَّسَ بِهِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ.
وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: " أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِحُنَيْنٍ، وَعَلَى الْأَعْرَابِيِّ قَمِيصٌ، وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَهْلَلَتُ بِعُمْرَةٍ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انْزِعْ قَمِيصَكَ، وَاغْسِلْ هَذِهِ الصُّفْرَةَ عَنْكَ، وَافْعَلْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَفْعَلُ فِي حَجَّتِكَ "، اهـ.
وَالَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا قَالُوا: يَعْتَضِدُ حَدِيثُ يَعْلَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ "، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ، وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ، فَقَالَ: مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مِنْكَ لَعَمْرُ اللَّهِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ طَيَّبَتْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لِتَرْجِعَنَّ فَلَتَغْسِلَنَّهُ.
وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنِ الصَّلْتِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَدَ رِيحَ طِيبٍ وَهُوَ بِالشَّجَرَةِ، وَإِلَى جَنْبِهِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَقَالَ عُمَرُ: مِمَّنْ رِيحُ هَذَا الطِّيبِ؟ فَقَالَ كَثِيرٌ: مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَأَرَدْتُ أَلَّا أَحْلِقَ، فَقَالَ عُمَرُ: فَاذْهَبْ إِلَى شَرَبَةٍ فَادْلُكْ رَأْسَكَ، حَتَّى تُنَقِّيَهُ، فَفَعَلَ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ. قَالَ مَالِكٌ: الشَّرَبَةُ حَفِيرٌ تَكُونُ عِنْدَ أَصْلِ النَّخْلَةِ. انْتَهَى مِنَ " الْمُوَطَّأِ ".
قَالُوا: فَفِعْلُ هَذَا الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ مُطَابِقٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَذَكَرَ الزَّرْقَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ ": أَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ أَيْضًا ذَلِكَ عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَقَالَ: إِنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، كَمَا أَنْكَرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَكَثِيرٍ الْمَذْكُورَيْنِ، قَالَ: فَهَذَا عُمَرُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى صَحَابِيَّيْنِ، وَتَابِعِيٍّ كَبِيرٍ الطِّيبَ بِمَحْضَرِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ صَحَابَةً وَغَيْرَهُمْ، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى رَجُلًا قَدْ تَطَيَّبَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ بِطِينٍ، اهـ.