صِيغَةُ خَبَرٍ أُرِيدَ بِهَا الْإِنْشَاءُ: أَيْ فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَفْسُقُ، وَلَا يُجَادِلُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّ الصِّيغَةَ قَدْ تَكُونُ خَبَرِيَّةً، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِنْشَاءُ لِأَسْبَابٍ مِنْهَا التَّفَاؤُلُ كَقَوْلِكِ: رَحِمَ اللَّهُ زَيْدًا، فَالصِّيغَةُ خَبَرِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِنْشَاءُ الدُّعَاءِ لَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَمِنْهَا إِظْهَارُ تَأْكِيدِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَإِلْزَامُ ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الْآيَةَ [61 \ 10 - 11] : أَيْ آمِنُوا بِاللَّهِ بِدَلِيلِ جَزْمِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ الْآيَةَ [61 \ 12] فَهُوَ مَجْزُومٌ بِالطَّلَبِ الْمُرَادِ بِالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أَيْ: آمِنُوا بِاللَّهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ; كَقَوْلِهِ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [9 \ 14] تَعَالَوْا أَتْلُ الْآيَةَ [6 \ 151] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْمُسَوِّغُ لِكَوْنِ الصِّيغَةِ فِي الْآيَةِ خَبَرِيَّةً، هُوَ إِظْهَارُ التَّأَكُّدِ، وَاللُّزُومِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْإِيمَانِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، لِإِظْهَارِ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ الْمُخْبَرِ عَنْ وُقُوعِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ الْآيَةَ [2 \ 233] ، وَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ الْآيَةَ [2 \ 228] . فَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِالْإِرْضَاعِ، وَالتَّرَبُّصِ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةٍ خَبَرِيَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فَنِّ الْمَعَانِي.
وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الرَّفَثِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ.
وَالثَّانِي: الْكَلَامُ بِذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ الْمُحْرِمُ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَحْلَلْنَا مِنْ إِحْرَامِنَا فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّفَثِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ كَجِمَاعِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [2 \ 187] فَالْمُرَادُ بِالرَّفَثِ فِي الْآيَةِ: الْمُبَاشَرَةُ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّفَثِ عَلَى الْكَلَامِ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
وَرُبَّ أَسْرَابٍ حَجِيجٍ ... كُظَمِ عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْبَيْتَ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ الرَّاجِزُ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا ... إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا
فَقِيلَ لَهُ: أَتَرْفَثُ، وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ: مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ، وَفِي لَفْظِ: مَا قِيلَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ النِّسَاءِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْفُسُوقِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى،