وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْحَجِّ؟ فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَنَادَى: الْحَجُّ الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَتَمَّ حَجُّهُ» وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» ، وَإِسْنَادُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.
قُلْتُ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ عِنْدَكُمْ بِالْكُوفَةِ حَدِيثٌ أَشْرَفَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ.
وَدَلِيلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَمَعَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بَيْنَ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَجُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ، مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ: أَنَّ وُقُوفَهُ تَامٌّ، هُوَ مَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَعَلَ وَقَالَ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» .
فَمِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ فِيهِ: «فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ» الْحَدِيثَ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ جَمَعَ فِي وُقُوفِهِ بَيْنَ النَّهَارِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ، وَبَيْنَ جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ اللَّيْلِ مَعَ قَوْلِهِ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَدَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ فِي وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ عَلَى جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، دُونَ النَّهَارِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الْمَذْكُورُ، فَإِنَّ فِيهِ تَصْرِيحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ. وَجَمْعُ: هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَلَيْلَتُهَا: هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي صَبِيحَتُهَا يَوْمُ النَّحْرِ.
وَدَلِيلُ مَنْ أَلْزَمُوهُ دَمًا مَعَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتَفِ بِاللَّيْلِ، بَلْ وَقَفَ مَعَهُ جُزْءًا مِنَ النَّهَارِ، فَتَارِكُ الْوُقُوفِ بِالنَّهَارِ تَارِكٌ نُسُكًا. وَفِي الْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الدِّيلِيِّ: «فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» لَا يُسَاعِدُ عَلَى لُزُومِ الدَّمِ، لِأَنَّ لَفْظَ التَّمَامِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ