السَّعْيَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ حَجٌّ، وَلَا عُمْرَةٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا رَتَّبَتْ بِالْفَاءِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا قَوْلَهَا: فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، عَلَى قَوْلِهَا: قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلَهَا: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، لِأَجْلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَدَلَّ هَذَا التَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهَا بِأَنَّهُ سَنَّهُ أَنَّهُ فَرَضَهُ بِسُنَّتِهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، مُسْتَدِلًّا لَهُ بِأَنَّهَا قَالَتْ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ، لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَوْلُهَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَتَرْتِيبُهَا عَلَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ، قَوْلُهَا: فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، وَجَزْمُهَا بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ إِلَّا بِذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا أَخَذَتْ ذَلِكَ مِمَّا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا بِرَأْيٍ مِنْهَا، كَمَا تَرَى.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ النَّصِّ الظَّاهِرِ مِنْ مَسَالِكَ الْعِلَّةِ أَنَّ الْفَاءَ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي كَلَامِ الرَّاوِي الْفَقِيهِ، فَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْوَحْيِ مِنْ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ الْفَاءُ مِنَ الرَّاوِي غَيْرِ الْفَقِيهِ.
وَمِثَالُهُ فِي الْوَحْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] ؛ أَيْ: لِعِلَّةِ سَرَقَتِهِمَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [2 \ 222] ؛ أَيْ: لِعِلَّةِ كَوْنِ الْحَيْضِ أَذًى.
وَمِثَالُهُ فِي كَلَامِ الرَّاوِي. حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنْ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَجِيءَ بِهِ فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. فَقَوْلُ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
فَأَمَرَ بِهِ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِحَجَرَيْنِ؛ أَيْ: لِعِلَّةِ رَضِّهِ رَأْسَ الْجَارِيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ» اهـ؛ أَيْ: سَجَدَ لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بِهِمَا؛ أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ ذَلِكَ؛ أَيْ: فَرَضَهُ بِسُنَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَإِلَى إِفَادَةِ الْفَاءِ التَّعْلِيلَ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، ثُمَّ الرَّاوِي الْفَقِيهِ، ثُمَّ الرَّاوِي غَيْرِ الْفَقِيهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي مَرَاتِبِ النَّصِّ الظَّاهِرِ:
فَالْفَاءُ لِلشَّارِعِ فَالْفَقِيهِ فَغَيْرُهُ يُتْبَعُ بِالشَّبِيهِ