وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» . انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ سُؤَالَ سُرَاقَةَ عَنِ الْفَسْخِ الْمَذْكُورِ وَجَوَابَ النَّبِيِّ لَهُ يَدُلُّ عَلَى تَأْبِيدِ مَشْرُوعِيَّتِهِ كَمَا تَرَى؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ، فَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ الْفَسْخَ مَمْنُوعٌ لِغَيْرِ أَهْلِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُصَرِّحِ بِخِلَافِهِ كَمَا تَرَى.
وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوِ انْدِرَاجُ أَعْمَالِهَا فِيهِ فِي حَالِ الْقِرَانِ - بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْعُمْرَةَ انْدَرَجَتْ فِي الْحَجِّ؛ أَيِ انْدَرَجَ وُجُوبُهَا فِي وُجُوبِهِ، فَلَا تَجِبُ الْعُمْرَةُ؛ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَبُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ وَظُهُورُ سُقُوطِهِ كَمَا تَرَى.
وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَيْنَ يَقَعُ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ صَحَابِيًّا رَوَوُا الْفَسْخَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ حَتَّى يُقَدَّمُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْفَسْخَ لِلصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا حُكْمَ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْحَارِثُ فِي إِثْبَاتِ الْفَسْخِ لِلصَّحَابَةِ، وَلَكِنَّهُ زَادَ زِيَادَةً لَا تُخَالِفُهُمْ وَهِيَ اخْتِصَاصُ الْفَسْخِ بِهِمْ. اهـ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَدِلَّةَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النُّسُكِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ جَوَابَهُمْ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ أَنَّهُ لِإِزَالَةِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ الْمَفْعُولَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ.
فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ ادَّعَوُا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَكُلُّهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا الَّتِي هِيَ مُعْتَمَدُهُمْ فِي تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ أَوَّلًا مُفْرِدًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، فَصَارَ قَارِنًا، فَأَحَادِيثُ الْإِفْرَادِ يُرَادُ بِهَا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ أَوَّلَ إِحْرَامِهِ، وَأَحَادِيثُ الْقِرَانِ