وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ حَزْمٍ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ عُرْوَةَ، وَأَنَّهُ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - خَيْرٌ مِنْ عُرْوَةَ وَأَوْلَى مِنْهُ بِالنَّبِيِّ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ سَاقَ آثَارًا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَذْكُرُ فِيهَا التَّمَتُّعَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَهَى عَنْهُ مُعَاوِيَةُ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ الْمَذْكُورِ رَدِّهِ عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ مِنْ عُرْوَةَ وَأَفْضَلُ، فَلَا يَرُدُّ رِوَايَةَ عُرْوَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْرِدُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُعَارِضْ عُرْوَةَ بِأَنَّ فِعْلَهُمَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ مِنَ الْإِفْرَادِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَقَدْ أَجَابَهُ عُرْوَةُ بِأَنَّهُمَا مَا فَعَلَا إِلَّا مَا عَلِمَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَكْمَلُ وَأَتْبَعُ لِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي رَوَاهَا مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهَا لَا تُعَدُّ شَيْئًا مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُمْ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا مَطْعَنَ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُفَضِّلُونَ الْإِفْرَادَ.
وَمَنْ فَهِمَ كَلَامَهُمْ حَقَّ الْفَهْمِ - أَعْنِي الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ - عَلِمَ أَنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَعْلَمُونَ جَوَازَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عِلْمًا لَا يُخَالِجُهُ شَكٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ أَتَمُّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْمَعْنَى غَيْرُ خَافٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِمَنْ تَأْمَّلَ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ كَانُوا يُفْرِدُونَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ، فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي - أَوْ: غَسَلَتْ رَأْسِي - فَقَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالتَّمَامِ، قَالَ اللَّهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [2 \ 196] وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. انْتَهَى مِنْهُ، وَنَحْوُهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: مُحَصِّلُ جَوَابِ عُمَرَ فِي مَنْعِهِ النَّاسَ مِنَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ، أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ دَالٌّ عَلَى مَنْعِ التَّحَلُّلِ لِأَمْرِهِ بِالْإِتْمَامِ،