فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: بَعَثْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا بَدَلَ صَاعَيْنِ هَذَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ، وَهَا هُوَ، كُلْ، فَأَلْقَى التَّمْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «رَدُّوهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبَا» ثُمَّ قَالَ «كَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ أَيْضًا» إِلَى آخِرِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ يُبَاعُ مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَاتُهَا. فَأَبُو حَنِيفَةَ مَثَلًا الْقَائِلُ بِالرِّبَا فِي الْأُشْنَانِ مُتَمَسِّكٌ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ، الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ بَعِيدٌ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّصِّ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدَثُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِضَعْفِهِ، وَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ مُتَعَقِّبًا عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: حَيَّانُ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَيْسَ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: زَعْمُهُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ. وَاعْتِقَادُ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ مَجْهُولٌ.
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ مَا سَتَرَاهُ الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: مُنَاقَشَةُ مَنْ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَعِيفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا ضَعْفَهُ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا فَهُوَ مُعْتَضِدٌ بِمَا يَثْبُتُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ.
أَمَّا الْمُنَاقَشَةُ فِي تَضْعِيفِهِ، فَقَوْلُ الذَّهَبِيِّ: إِنَّ حَيَّانَ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَيْسَ بِالْحُجَّةِ - مُعَارَضٌ بِقَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِهِ فِي كِتَابِ «الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ» : إِنَّهُ صَدُوقٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّعْدِيلَ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، وَالتَّجْرِيحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُبَيَّنًا مُفَصَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا. وَإِعْلَالُ ابْنِ حَزْمٍ لَهُ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَأَنَّ حَيَّانَ مَجْهُولٌ قَدْ قَدَّمْنَا مُنَاقَشَتَهُ فِيهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ؛ لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ أَدْرَكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَسَمِعَ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي «الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ» فِي أَبِي مِجْلَزٍ الْمَذْكُورِ: وَهُوَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ