أَنَّ الضَّنْكَ فِي اللُّغَةِ: الضِّيقُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا ... أَشْدُدْ وَإِنْ يُلْفَوْا بِضَنْكٍ أَنْزِلُ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ ... مِثْلِي إِذَا نَزَلُوا بِضَنْكِ الْمَنْزِلِ
وَأَصْلُ الضَّنْكِ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ، وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمُفْرَدُ، وَالْجَمْعُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعِيشَةً ضَنْكًا أَيْ: عَيْشًا ضَيِّقًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَيْشِ الضَّيِّقِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا: أَنَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ شُمُولَ الْآيَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَمِنَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ مَعَ الدِّينِ التَّسْلِيمَ، وَالْقَنَاعَةَ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقِسْمَتِهِ فَصَاحِبُهُ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ بِسَمَاحٍ وَسُهُولَةٍ، فَيَعِيشُ عَيْشًا هَنِيئًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [16 \ 97] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الْآيَةَ [11 \ 3] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا الْمُعْرِضُ عَنِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْحِرْصُ الَّذِي لَا يَزَالُ يَطْمَحُ بِهِ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الدُّنْيَا مُسَلِّطٌ عَلَيْهِ الشُّحَّ الَّذِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَعَيْشُهُ ضَنْكٌ، وَحَالُهُ مُظْلِمَةٌ. وَمِنَ الْكَفَرَةِ مَنْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الذِّلَّةَ، وَالْمَسْكَنَةَ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتِ [2 \ 61] . وَذَلِكَ مِنَ الْعَيْشِ الضَّنْكِ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ تَعَالَى أَنَّ عَيْشَهُمْ يَصِيرُ وَاسِعًا رَغْدًا لَا ضَنْكًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الْآيَةَ [5 \ 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 96] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [71 \ 10 - 12] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ هُودٍ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [11 \ 52]