فَآدَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا صَدَرَتْ مِنْهُ الزَّلَّةُ إِلَّا بِسَبَبِ غُرُورِ إِبْلِيسَ لَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ آدَمَ مِنْ شِدَّةِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ كَاذِبٌ فَأَنْسَاهُ حَلِفُ إِبْلِيسَ بِاللَّهِ الْعَهْدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ. وَقَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَغَوَى أَيْ: فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ بِنُزُولِهِ إِلَى الدُّنْيَا.

قَالُوا: وَالْغَيُّ. الْفَسَادُ، خِلَافُ الظَّاهِرِ وَإِنْ حَكَاهُ النَّقَّاشُ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فَغَوَى أَيْ: بَشَمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. وَالْبَشَمُ: التُّخَمَةُ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْلِبُ الْيَاءَ الْمَكْسُورَةَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا فَيَقُولُ فِي فَنِيَ وَبَقِيَ، فَنَا وَبَقَا، وَهُمْ بَنُو طَيِّئٍ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، اهـ مِنْهُ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ لُغَةِ طَيِّئٍ مَعْرُوفٌ. فَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجَارِيَةِ: جَارَاةٌ، وَلِلنَّاصِيَةِ نَاصَاةٌ، وَيَقُولُونَ فِي بَقِيَ بَقَى كَرَمَى. وَمِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

لَعَمْرُكَ لَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى ... عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا

وَهَذِهِ اللُّغَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ لَا حَاجَةَ لَهَا فِي التَّفْسِيرِ الْبَاطِلِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: غَوَى الْفَصِيلُ كَرَضِيَ وَكَرَمَى: إِذَا بَشَمَ مِنَ اللَّبَنِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَصَى آدَمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى «غَوَى» ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَأَمْثَالَهَا فِي الْقُرْآنِ هِيَ حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْأُصُولِ:

مَسْأَلَةٌ

الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَعْصِيَةٌ. وَخَالَفَ الرَّوَافِضُ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَّا فِي الصَّغَائِرِ. وَمُعْتَمَدُهُمُ التَّقْبِيحُ الْعَقْلِيُّ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ بَعْدَ الرِّسَالَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْأَحْكَامِ. لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ. وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي غَلَطًا وَقَالَ: دَلَّتْ عَلَى الصِّدْقِ اعْتِقَادًا. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْمَعَاصِي فَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالصَّغَائِرِ الْخَسِيسَةِ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِمَا اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَحَاصِلُ كَلَامِهِ: عِصَمَتُهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015