(وَمِنْهَا) : أَنَّهُمْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَرِنَا مُوسَى نَائِمًا: فَفَعَلَ فَوَجَدُوهُ قُرْبَ عَصَاهُ، فَقَالُوا: مَا هَذَا بِسِحْرِ السَّاحِرِ! لِأَنَّ السَّاحِرَ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعَارِضُوهُ، وَأَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَعَلُوهُ طَائِعِينَ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَطَايَانَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ، وَهِيَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ. كَالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ. وَالْفَعِيلَةُ تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ، وَالْهَمْزَةُ فِي فَعَائِلَ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْيَاءِ فِي فَعِيلَةٍ، وَمِثْلُهَا الْأَلِفُ، وَالْوَاوُ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَالْمَدُّ زِيدَ ثَالِثًا فِي الْوَاحِدِ ... هَمْزًا يُرَى فِي مِثْلِ كَالْقَلَائِدِ
فَأَصْلُ خَطَايَا " خَطَائِيِ " بِيَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَهِيَ يَاءُ خَطِيئَةٍ، وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ. ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ هَمْزَةً عَلَى حَدِّ الْإِبْدَالِ فِي صَحَائِفَ فَصَارَتْ خَطَائِئَ بِهَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِلُزُومِ إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْمُتَطَرِّفَةِ بَعْدَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ يَاءً، فَصَارَتْ خَطَائِيَ، ثُمَّ فُتِحَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى تَخْفِيفًا فَصَارَ خَطَاءَيَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَ خَطَاءَا بِأَلِفَيْنِ بَيْنَهُمَا هَمْزَةٌ، وَالْهَمْزَةُ تُشْبِهُ الْأَلِفَ، فَاجْتَمَعَ شِبْهُ ثَلَاثَةِ أَلِفَاتٍ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً فَصَارَ خَطَايَا بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْمَالٍ، وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَافْتَحْ وَرُدَّ الْهَمْزَ يَا فِيمَا أُعِلَّ ... لَامًا وَفِي مِثْلِ هِرَاوَةٍ جُعِلْ
وَاوًا. . . إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ: أَنَّ الْمَعْنَى خَيْرٌ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَبْقَى مِنْهُ. لِأَنَّهُ بَاقٍ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَلَا يُذَلُّ، وَلَا يَمُوتُ، وَلَا يُعْزَلُ. كَمَا أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا [16 52] . أَيْ: بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرِهِ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى، بَلْ يَمُوتُ أَوْ يُعْزَلُ، أَوْ يُذَلُّ بَعْدَ الْعِزِّ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ ثَوَابَهُ خَيْرٌ مِمَّا وَعَدَهُمْ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [7 113 - 114] . وَأَبْقَى: أَيْ: أَدْوَمُ. لِأَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ زَائِلٌ، وَثَوَابُ اللَّهِ بَاقٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 96] وَقَالَ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [87 16] . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَأَبْقَى أَيْ: أَبْقَى عَذَابًا مِنْ عَذَابِكَ، وَأَدْوَمُ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى