وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنِ اقْذِفِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مُوسَى بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ وَقَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ فَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى التَّابُوتِ. وَالصَّوَابُ رُجُوعُهُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، لِأَنَّ تَفْرِيقَ الضَّمَائِرِ غَيْرُ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [20 39] هُوَ فِرْعَوْنُ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ فِيهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: فَلْيُلْقِهِ أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَجَاءَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مُبَالَغَةً، إِذِ الْأَمْرُ أَقْطَعُ الْأَفْعَالِ وَأَوْجَبُهَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ أُرِيدَ بِهَا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ، كَقَوْلِهِ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [36 82] فَالْبَحْرُ لَا بُدَّ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ كَوْنًا وَقَدَرًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُشْبِهُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [19 75] .

وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْقَصَصِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [28 7 - 8] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى شِدَّةَ جَزَعِ أُمِّهِ عَلَيْهِ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَلْقَاهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، وَأَخَذَهُ عَدُوُّهُ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [28 10] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَأْخُذْهُ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. وَعَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَالْجَزْمُ مُرَاعَاةٌ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا صَنَعَتْ لَهُ التَّابُوتَ وَطَلَتْهُ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ لِئَلَّا يَتَسَرَّبَ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى مُوسَى فِي دَاخِلِ التَّابُوتِ، وَحَشَتْهُ قُطْنًا مَحْلُوجًا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّابُوتَ الْمَذْكُورَ مِنْ شَجَرِ الْجُمَّيْزِ، وَأَنَّ الَّذِي نَجَرَهُ لَهَا هُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، قِيلَ: وَاسْمُهُ حِزْقِيلَ. وَكَانَتْ عَقَدَتْ فِي التَّابُوتِ حَبْلًا فَإِذَا خَافَتْ عَلَى مُوسَى مِنْ عُيُونِ فِرْعَوْنَ أَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَإِذَا أَمِنَتْ جَذَبَتْهُ إِلَيْهَا بِالْحَبْلِ. فَذَهَبَتْ مَرَّةً لِتَشُدَّ الْحَبْلَ فِي مَنْزِلِهَا فَانْفَلَتَ مِنْهَا وَذَهَبَ الْبَحْرُ بِالتَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ مُوسَى فَحَصَلَ لَهَا بِذَلِكَ مِنَ الْغَمِّ، وَالْهَمِّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا الْآيَةَ [28 10] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015