الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاوَ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ، رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَمَّا الْعَاقِلُ مِنْهَا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَاقِلِ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُ إِدْرَاكًا يُخَاطِبُ بِهِ مَنْ عَبَدَهُ وَيَكْفُرُ بِهِ بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [28 \ 63] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [16 \ 86] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ [10 \ 28 - 29] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ الْعَابِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ شُرَكَاءَهُمْ وَيُنْكِرُونَهَا وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] ، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا الْآيَةَ [40 \ 74] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْقَرِينَةُ الْمُرَجِّحَةُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ، رَاجِعٌ لِلْمَعْبُودَاتِ، وَعَلَيْهِ فَرُجُوعُ الضَّمِيرِ فِي يَكْفُرُونَ لِلْمَعْبُودَاتِ أَظْهَرُ ; لِانْسِجَامِ الضَّمَائِرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ.

أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَمِيرُ يَكْفُرُونَ لِلْعَابِدِينَ، وَضَمِيرُ يَكُونُونَ لِلْمَعْبُودِينَ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ كَلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا لَا بِمَا قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْمَعْنَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ، أَيْ: حَقًّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ - مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَرْجَحُ، وَقَائِلُهُ أَكْثَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا لِشُذُوذِهَا.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَفْرَدَ فِيهِ الْعِزَّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرْ فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرْ وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النَّعْتِ بِهِ، وَقَوْلُهُ: ضِدًّا مُفْرَدًا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015