هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " مَرْيَمَ ": وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [19 \ 52] ، وَقَوْلِهِ فِي " طه ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى [20 \ 11] ، وَقَوْلُهُ: سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ [27 \ 7] ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " طه ": أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [20 \ 10] ، أَيْ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ فَيُخْبِرُنِي عَنْهَا فَآتِيكُمْ بِخَبَرِهِ عَنْهَا، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْقَصَصِ ": فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ الْآيَةَ [28 \ 29 - 30] .
فَالنِّدَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي " مَرْيَمَ "، وَطه، وَالنَّمْلِ " وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَدَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي رَأَى فِيهَا النَّارَ عَنْ يَمِينِ الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ الطُّورُ، وَفِي يَمِينِ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي هُوَ طُوًى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ طُوًى اسْمٌ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ يَمِينُ مُوسَى ; لِأَنَّ الْجَبَلَ وَمِثْلَهُ الْوَادِيَ لَا يَمِينَ لَهُ وَلَا شِمَالَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ [28 \ 30] ، أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ [28 \ 44] ، فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ. انْتَهَى مِنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الْآيَةَ [19 \ 52] ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا الْآيَةَ [28 \ 46] .
وَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ نِدَاءُ اللَّهِ لَهُ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَسْمَعَهُ نَبِيَّهُ مُوسَى، وَلَا يُعْقَلُ أَنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَلَا كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَخْلُوقٍ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ الْمَلَاحِدَةِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ غَيْرُ اللَّهِ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27 \ 9] ، وَلَا أَنْ يَقُولَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [20 \ 14] ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ قَالَهُ مَخْلُوقٌ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 24] ، عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ فِي مَعْرِضِ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ.
فَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [20 \ 14] ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27 \ 9] ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ صَرَاحَةً لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِدِينِ الْإِسْلَامِ.