وَالْجَوَابُ: هُوَ أَنَّ الْإِفْرَادَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ «مَنْ» ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ جَوَازُ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ تَارَةً، وَمُرَاعَاةِ الْمَعْنَى تَارَةً أُخْرَى مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُرَاعَاةَ اللَّفْظِ بَعْدَ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى لَا تَصِحُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [65 \ 11] ، فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَاعَى لَفْظَ «مَنْ» أَوَّلًا فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْمِنْ، وَقَوْلِهِ «وَيَعْمَلْ» ، وَقَوْلِهِ «يُدْخِلْهُ» وَرَاعَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فَأَتَى فِيهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، ثُمَّ رَاعَى اللَّفْظَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَفْقَهُوهُ، فِيهِ وَفِي كُلِّ مَا يُشَابِهُهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، وَعَلَيْهِ فَلَا النَّافِيَةُ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُنَا اقْتَصَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي كُلِّهَا الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [4 \ 176] ، أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَقَوْلِهِ: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [49 \ 6] ، أَيْ: لِئَلَّا تُصِيبُوا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيْ: يَفْهَمُوهُ، فَالْفِقْهُ: الْفَهْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [4 \ 78] ، أَيْ: يَفْهَمُونَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [11 \ 91] ، أَيْ: مَا نَفْهَمُهُ، وَالْوَقْرُ: الثِّقَلُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْوَقْرُ بِالْفَتْحِ، الثِّقَلُ فِي الْأُذُنِ، وَالْوِقْرُ بِالْكَسْرِ: الْحِمْلُ، يُقَالُ جَاءَ يَحْمِلُ وِقْرَهُ، وَأَوْقَرَ بِعِيرَهُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الْوِقْرُ فِي حِمْلِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ اهـ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، قَالَ فِي ثِقَلِ الْأُذُنِ: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [6 \ 25] ، وَقَالَ فِي الْحِمْلِ: فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا [51 \ 2] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً تَمْنَعُهُمْ أَنْ يَفْقَهُوا مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِهَا لَا يَهْتَدُونَ أَبَدًا، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِمْ دُعَاؤُكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ