وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [6 \ 34] .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّهُ هُوَ يُبَدِّلُ مَا شَاءَ مِنَ الْآيَاتِ مَكَانَ مَا شَاءَ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ الْآيَةَ [16 \ 101] ، وَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [2 \ 106] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [18 \ 27] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا.
أَصْلُ الْمُلْتَحَدِ: مَكَانُ الِالْتِحَادِ وَهُوَ الِافْتِعَالُ: مِنَ اللَّحْدِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ ; لِأَنَّهُ مَيْلٌ فِي الْحَفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [41 \ 40] ، وَقَوْلُهُ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ الْآيَةَ [7 \ 180] ، فَمَعْنَى اللَّحْدِ وَالْإِلْحَادِ فِي ذَلِكَ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، وَالْمُلْحِدُ الْمَائِلُ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ زَادَ مَاضِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَمَصْدَرُهُ الْمِيمِيُّ وَاسْمُ مَكَانِهِ وَاسْمُ زَمَانِهِ كُلُّهَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا هُنَا، فَالْمُلْتَحَدُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِالْتِحَادِ، أَيِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَمِيلُ فِيهِ إِلَى مَلْجَأٍ أَوْ مَنْجًى يُنْجِيهِ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجِدُ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ; أَيْ: مَكَانًا يَمِيلُ إِلَيْهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَيُطِعْهُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ [72 \ 21 - 22] ، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ الْآيَةَ [69 \ 44 - 47] .
وَكَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ مُلْتَحَدٌ، أَيْ: مَكَانٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَالْمَنَاصِ، وَالْمَحِيصِ، وَالْمَلْجَأِ، وَالْمَوْئِلِ، وَالْمَفَرِّ، وَالْوَزَرِ، كَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [38 \ 3] ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [4 \ 121] ، وَقَوْلِهِ: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [50 \ 36] ، وَقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [42 \ 47] ، وَقَوْلِهِ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [18 \ 58] ،